
محمد عبد الرحيم
«فَهَل يَكُونُ لِي أَن أُسَمِّي الأُفْقَ ثَوْبا ضَيِّقا وَالكِتَابَةَ وَرْطَة وَالدَّوْلَةَ سِيرْكا مِنَ الحُوَاةِ وَالقَتَلَةِ وَالانتِخَابَاتِ مَلهَاة وَالسُّكُونَ سِكِّينا وَالجَرَائِدَ جَيْشا مِنَ الدَّاعِرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ فِنجَانا فَاتِرا مِنَ الخُوَاءِ لِي أَن أُسَمِّي اللَّيْلَ تِرْيَاقا أَلِيفا وَالنَّهَارَ مَفَازَة وَالشِّعْرَ شَرَكا شَائِكا». (إشراقات رفعت سلام 1992).
سيظل رفعت سلام (16 نوفمبر/تشرين الثاني 1951 ــ 6 ديسمبر/كانون الأول 2020) من الأصوات المتفردة في مسيرة الشعر المصري والعربي، ممثلا صوتا حداثيا من الصعب تكراره، ومُعبّرا عن تجربة شعرية/إنسانية حاولت السعي بالقصيدة إلى جماليات غير مسبوقة. عن تجربة الرجل جاء كتاب بعنوان «النهار الآتي.. قرءات نقدية في التجربة الشعرية لرفعت سلام». الذي أعدّه الشاعر والكاتب المسرحي أحمد سراج، والذي تضمن العديد من القراءات لمجموعة مختلفة من النقاد والشعراء المصريين والعرب، وقد أقيمت ندوة لمناقشة بعض مما جاء بالكتاب، وجوانب من عالم الرجل شعرا وترجمة. أدار الندوة الشاعر محمد حربي، وشارك فيها كل من مُعد الكتاب، والشاعر والمترجم أسامة جاد.
حياة القصيدة
بداية تحدث محمد حربي عن حياة رفعت سلام، التي لا تختلف عن قصائده وترجماته، بحيث لا يمكن التفرقة ما بين حياة الإبداع والرغبة التي تعنى بالإبداع، من ناحية أخرى اعتبر حربي أن حياة سلام في الترجمة تبدو وكأنها قصيدة موازية، متكاملة مع شعره، الذي يعد بدوره مشروعا كبيرا، ويأتي كتاب النهار الآتي كتوثيق لمشروع رفعت سلام الشعري، كأحد أهم شعراء جيل السبعينيات، موضحا أن انحياز سلام كان لجماعة (أصوات) لا جماعة (إضاءة).
الإحساس الشعري واتساع الرؤية
وبدوره أشار الشاعر والمترجم أسامة جاد إلى أن رفعت سلام يعتبر من القليلين الذين اتخذوا موقفا نقديا من شعر ورؤية أدونيس، فلم يكن متبعا تماما لما بشر به ومارسه أدونيس بالفعل، وتمثل ذلك في كتابه «بحثا عن التراث»، الذي جاء ردا ومناقشة لأفكار أدونيس، التي صاغها في كتابه «الثابت والمتحول». وهو ما حدد مفهوم سلام لقصيدة النثر ـ وهو الملتبس لدى الكثير ـ فهل هو نثر تام، أم نثر موَقّع؟ فخرج بذلك إلى الإحساس الشعري دون التفسير، وبالتالي انفتاح باب التأويل على اتساعه، كذلك الفضاء التشكيلي الذي امتاز به شعر سلام، حيث الصفحة لوحة تشكيلية، كان يرسمها سلام بالفعل، من خلال مرحلتين.. إعادة الاعتبار لهامش على حساب المتن، ثم انفصال الهامش عن المتن.
جانب من الندوة
ويرى جاد أن مقدمات رفعت سلام في الترجمات، التي قام بها تعد دراسة وافية لعالم وعصر وحياة الشاعر المترجمة قصائده. ويعد الكتاب مرجعا أساسيا لفهم هذا العالم. وقد ترجم سلام العمل الضخم والأهم وكأنه مؤسسة بدوره، متمثلا في الأعمال الكاملة لويتمان، وقد ترجم سعدي يوسف بعضا من أشعار ويتمان، قائلا إنه ترجم من ويتمان قدر استطاعته.
أما عن كتاب (النهار الآتي) فقد اعتمد منهجا واضحا ومختلفا في التوثيق، دون فكرة جمع مقالات معتادة، وهو المتبع في حالة من الوفاء العاطفي، بل تم إعداد دراسات مختلفة عن دواوين رفعت سلام ومشروعه الشعري، مع مقدمة عامة عن شعرية رفعت سلام، فهناك إذن قراءات ومناهج متعددة بعدد الباحثين وأبحاثهم في الكتاب، وهو ما يخلق رؤية أكثر اتساعا للخطاب الشعري وتجلياته.
النهار الآتي
وبدوره تحدث الشاعر أحمد سراج عن فكرة الكتاب، وهو أن يضم دراستين مختلفتين عن كل ديوان من دواوين سلام، خاصة أن الكتاب قد صدر في حياة الشاعر الراحل. بدأت الفكرة من احتفاء بالرجل في جريدة «أخبار الأدب» بملف عنه وعن منجزه الشعري وقتها، ثم تبلورت إلى كتاب. وقد تم التواصل مع النقاد والأكاديميين، ثم توالت الدراسات، التي تم استبعاد الكثير منها، إما استسهالا أو تكرارا لم كُتب من قبل، فالمسألة دخلت في طور انتقائي. وبهذا يمكن تقديم نموذج يمكن انتهاجه في أعمال أخرى، سواء تخص سلام نفسه أو غيره من الشعراء والكتاب.
وتم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، أولها (دراسات عامة)، ويتناول بعض القراءات الشاملة لتجربة سلام الشعرية.. إطلالةٌ على الدلالة العامة لشعر رفعت سلاَّم لمحمود أمين العالم، الكتَابَة خَارِجَ الشَّكْل: مَاضِي القَصِيـدَة، رَاهِنُ الشِّـعر لصلاح بوسريف، آليَّات الخطَاب الشِّعري فِي تجربَة رفعت سلاَّم الشِّعريَّة لشريف رزق، والوجُودُ عَاريا في قصائد رفعت سلاَّم لعبد الدائم السلامي. أما الباب الثاني فبعنوان (دراسة الدواوين).. وردَة الفوضَى الجميلَة.. اعتدال عثمان ومحمد عبد المطلب. إشرقات رفعت سلام.. إدوار الخراط وعبد الله السمطي. إنهَـا تُومئ لي.. محمد عصفور ورمضان بسطاويسي. هكذا قلتُ للهاويـة.. محمد فكري الجزار ومحمد سمير عبد السلام. إلى النَّهـار الماضـي.. بهاء مزيد وصلاح العايدي. كأنهَا نهَــاية الأرض.. شريف الجيار وأبو اليزيد الشرقاوي، حجَر يطفُـو على الماء.. محمد فريد أبو سعدة ومحمد فكري الجزار، هكذَا تكلَّم الكركَدن.. أحمد بلبولة وعادل ضرغام.
ويأتي الباب الأخير، حاملا عنوان (شهادات)، وجاءت لكل من.. علاء الديب، أمجد ريان، عزمي عبد الوهاب، لطفي السيد منصور، محمد رياض، ومسعود شومان، إضافة إلى بيبلوغرافيا رفعت سلام ساردة دواوينه وترجماته، ومراجعات الترجمات لآخرين، وأهم الجوائز التي حصل عليها.
ونختتم بجزء من مقدمة سراج نفسه بالكتاب.. «يتجلى صبرُ تجربةِ سلامٍ في انتظامِ عقدِها، منذُ الكلمةِ الأولى حتى الكلمة التي لما تُكتَب بعدُ، فكأنه ينحت تمثالا في جبلٍ؛ لكأنه يشبه الفنان المصري القديم، الذي يحمل أدواته المخفية في عناية، ويبدأ في صياغة الجبل معبدا، ومعراجا للسماء يسميه البعض قبرا، غير آبهٍ بعواء الذئاب، ولا بضجيج الحفلاتِ التي تغصُّ بفنانين ينحنون تحت أقدام الملوك؛ هذه أدوات رفعت سلام؛ قلم رصاص ودفتر على الأغلب؛ وهذا ما ينتج؛ دواوين وتراجم كاملة لكبار شعراء الحداثة».