مريمُ خَدّرَها قمرٌ حاسِرٌ

2021-12-27

حسن نصّور

I. النجم

مَجْدولَةٌ بِلَامِ الأمْرِ، مَعْقودَةٌ بِالحواشي إلى جُذوعِ الكَلِماتِ، مَوْصولَةٌ بِالصَّحائِفِ القَمَريّةِ التي أنْبَتَتْها القَبائِلُ قبْلَ الأسْوارِ، وَلا مُدُنَ... بَلْ خِيامٌ وَرَغائبُ وَأسْفار.

تجري مِنْ تَحْتِكِ الأنْهارُ، فَتَسْطَعينَ. وَهَذا الجَناءُ الجَناءُ الجَناءُ... تَسْطَعينَ بالقَرابينِ المَسْحُورَةِ المُدَمَّاةِ المَنْقُولةِ سِرّاً عَلى اليَعْمُلاتِ* مِنَ المَعابِدِ وَالسّاحاتِ.

تَسْطَعينَ بِالأرَقِ. صَليبُكِ شاهِقٌ مَسْتورٌ. سُنَّتُكِ اللِّينُ وَالغَرابَةُ. قَلبُكِ قَفيرٌ هائجٌ. عَسَلُكِ لَيْسَ يُشْفي غَليلَ الإلَهِ. تَسْطَعينَ وتَسْطَعينَ، وَأرى ذَلِكَ كُلَّهُ... بِالفِرَاسَةِ التي تَبُثُّها عَيْناكِ في المَساكِنِ الواطِئةِ وَغُرُفاتِ العِبادِ.

تَسْطَعينَ بِالألْفاظِ التي نُحِتَتْ مَرَّةً بِالضَّراعَةِ وَمَرّاتٍ بِالنُّواحِ. تَجْري مِنْ تَحْتِكِ الألْفاظُ، فاتِحَةً بَطْنَ الخَوْفِ، مُرْتَصَّةً كَالمَشْهَدِ المُذهِلِ الأخيرِ عَلى بَوابَةِ الإلَهِ. تَسْطَعينَ بِالشِّعْرِ الذي لَمْ يُقَلْ بَعْدُ، بِالشِّعْرِ الذي قِيلَ قَبْلَ خُروجُ الزَّمانِ مِنْ فَمِ التِّنِّينِ، وَدَوَّنَهُ الغُزاةُ عَلى حِجارَةِ سَبَأٍ وَعَلى ظُهورِ المَلِكاتِ العَارِياتِ السَّبايا حَاسِراتٍ ساحِراتٍ قُلوبَ النَّاسِ.  

تَسْطَعينَ بِالوُشومِ. مِيمٌ شَفِيفةٌ سَوْدَاءُ مِنَ السُّرَّةِ إلَى حَيْثُ الغُدران. تَسْطَعينَ بالعُلومِ الَّتِي تُلْهِبُ الغَيْبَ بالمَنايا والهَمْزَاتِ.

تَسْطَعينَ... إلى آآآآآآآآخِرِ النَّجْم.

تَسْطَعينَ...

إلى

جَوْفِ

البادِيَة.

■ ■ ■

II. سِين

يُحْدِقُ بِكِ الغَيْمُ. تُحُدِقُينَ بِلآلِئ الأجسادِ الذائبةِ عَلى نَحْرِكِ حتَّى الجَرَيانِ. تُحْدِقُ بِكِ الأسْمَاءُ كَهَالاتٍ تُبْطِنُ ما لا يظهرُ إلّا لِذَوي الألْبابِ. تَقولينَ: أنا المِرْآةُ، وَأنَا الماءُ، وَأنا السَّيْلُ الفائضُ من عَسَلِ الأسْماءِ. تَقولينَ: اسْمي قُرْبى... إلى السَّماءِ. تَقولينَ: أنا سِينُ السَّماءِ. أدْخُلُ، وَلا يُلمَحُ مِنْ دُخولِيَ اللّغَوِيِّ إلّا آثارُ قَدَمَيَّ الحافِيَتَيْنِ تُزهِقانِ الأرواحَ على صُحُفٍ مَحروقةٍ النَّزْواتِ.

يُحْدِقُ بكِ الغيَمُ. تَقولينَ: الصَّلاةُ سِوارٌ مُذَهَّبٌ وَأنا فِضِّيَّةُ الفُؤادِ. الصَّلاةُ انْتِظَارُ التِّنِّينِ المُضَرَّجِ بِدَمِ القِدِّيسِ. الصَّلاةُ انتظارٌ لَنْ يَحْدُثَ أبَدًا. الصَّلاةُ انتظارٌ لم يَحْدُثْ قَطّ. تَقُولِينَ: يا حَسْرَتا عَلى وَجَهِكَ الذي يَرْدُمُ الشُّكوكَ بِالأسْرارِ، يَا حَسْرَتا عَلى جُثْمانِكَ الذِي لا يَرِقُّ ولا يَرُفُّ وَلا يَبْلى، يَا حَسْرتا على صَدْرِكَ الذي يَشْحَنُ الغُرْفَةَ بِالكَآبَةِ وَالخَواءِ.  

■ ■ ■

III. السَّماع

تَقْرَأينَ حَديثَ السَّماعِ، وَمَا ذاكَ إلّا لتَمَكُّنِ هوًى باطِنٍ. نَحْنُ عَوامُّكِ وَأنْتِ الخَاصَّةُ. مُضيئةٌ أنتِ بِالغُلْمَةِ والحَنانِ. تَقْرئينَ حَديثَ السَّماعِ، وأُطْرِقُ... وَأُدَوِّنُ الحَاشِيَةَ تِلْوَ الحاشِيَةِ؛ الحَواشي التي اسْتَطالَتْ بِحِبالِ الأشْواقِ وَسَلاسِلِ الأرَقِ وَغَياهِبِ الإنْشادِ. تَنْقُلينَ عَنْ لِسانِ الأقْرَبينَ: السَّماعُ حَرامٌ عَلى العَوامِّ لِبَقاءِ نُفوسِهِمْ، وَلَا نَفْسَ لي بِسِوى الإيقَاعِ.

تَقْرأينَ حَديثَ السَّماعِ على مِسْمَعي. مُضيئةٌ أنْتِ بِغِيابِ مَوْلايَ. تَرْفُلينَ بِلُغَةِ الأوَّلينَ والآخِرينَ. مُضيئةٌ أنْتِ بظلالِ مَوْلايَ الذي يَرْقُبُ الطّارِقينَ مِنْ عَلٍ. تَقْرئين جُذورَ المُفْرَداتِ نَدِيَّةً طازَجَةً مِنْ فُروجِ الضَّوْءِ وَمَساقِط الأسِرَّةِ. تَرْفُلينَ بِالمَسَرَّةِ التي تَنْهَبُ الأنْفاسَ. نَحْنُ عَوَامُّكِ وَأنتِ الخاصَّةُ. نَحْنُ سَمَّاعوكِ. نَتَواجَدُ بالرِّياحِ، بِالعَواصِفِ التي تَفْتَحِينَ أسْرَارَها عَلى اللَّيْلِ... وَلا تُغْلِقينَ.

وَنَحْنُ سامِدون...

وَنَحْنُ سامِدون...

■ ■ ■

IV. العين

لا تَرْقَأُ العَينُ، عينُ الرَّغْبَةِ على مِثْلِ وجهِكِ، ولا مِثلَ. لا تَرْقَأ أبَدًا، لا صَحْوًا ولا سُكْرًا.

قَالَ بَعْضُ الأكابِرِ:

كَفاكَ بأنَّ الصَّحوَ أوْجَدَ أنَّتِي  //  فَكَيْفَ بِحالِ السُّكرُ والسُّكرُ أجْدَرُ

فَحالاكَ لي حالانِ صَحْوٌ وَسَكْرَةٌ  //  فلا زِلْتُ في حالَيَّ أصْحو وَأسْكَرُ.

لا تَرْقأُ العَينُ، عينُ الحَسْرةِ، على مثلِ وجهكِ، ولا مِثلَ. أقولُ: وجهكِ حَسْرَةٌ مُغْرِقَةٌ في القِدَمِ. وَما القِدَمُ؟

القِدَمُ حُفْرَةُ الذاتِ.

لا تَرْقَأ العَيْنُ عَلَى الفِطْرَةِ السَّاريَةِ أصَالَةً، لا بَيْنَهَا وَبَيْن الإلَهِ سِوى لَفْظِ الفِتْنَةِ الأُولى:

كُنْ.

شاعر من لبنان، والمقاطع هنا مختارة من مجموعته الشعرية الأخيرة، "مريم"، الصّادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي