سرديات التحوّل في روايات طالب الرفاعي

2021-12-23

علي حسن الفواز

أن نحتفي بالكتاب، يعني أننا نضع الاحتفاء بموازاة قراءته، والقراءة بطبيعتها مجال للاشتباك، مثلما هي مجال للتعرّف، وما بين المجالين يمكن للقراءة أن تمارس وظيفتها، في أن تبدو تلذذا أو أن تكون نقدا، أو بحثا عن المحذوف والغائب، أو مقاربة لثيمةٍ تحتاج إلى مزيد من الكشف والحفر والتعرية، وأحسب أن قراءة ما يكتبه القاص والروائي طالب الرفاعي تضعنا أمام إشكالية مواجهة عوالم تنزع عنها الثوب القديم لـ»المحكي» لتتبدى لنا موضوعاته وكأنها تشتغل على فكرة التاريخ، الذي يصنعه السرد، حيث تتفجر عبر هذا الاشتغال حساسيات أنثروبولوجية واجتماعية وثقافية وجندرية، وأفكار تخص تحولات الفضاء الكويتي، عبر حفريات أراد من خلالها مقاربةَ كثيرٍ من الظواهر، التي تُعنى بفكرة العنف الهوياتي، وموضوعات الجسد والمكان والشخصية، التي تعنى في المقابل بنزع غطاء «البراءة» عن المقموع التاريخي والجندري، ولكلِّ ما يقترحه من سرديات مثيرة للسجال والجدل.

التحول الكبير في المدينة الخليجية، قد يكون مكشوفا عند سرديات الرفاعي، لاسيما تلك التي تخصّ هوية المكان، وهوية الشخصية، وعلاقة ذلك بما تبدّى فيها من معطيات استغرقت وعي التحوّل، وطبيعة ما ظهر منها من علامات لقيم ومعطيات وعلاقات، كشفت عن وجودها ليس لأنها تعبير عن التحول العمراني في بنية المدينة والثروة والسلطة، بل لأنها انعكاس لتحولات عميقة في الاجتماع الخليجي وعمرانه الثقافي، وفي الكويت بشكل خاص، إذ اقترن التحول العميق في المدينة، بتبديات فاعلة على مستوى البنى الاجتماعية والاقتصادية، وعلى مستوى مظاهر الرفاهية والمعيش، فضلا عما ظهر منها في السرديات الثقافية في المسرح والسينما والرواية والقصة، وبإرهاصات تجاوزها لـ»ذاكرة اللؤلؤ» ولسير «السفانة» وللنمط الذي ساكنته المدينة الخليجية بشكلٍ عام، وصولا إلى بروز بنيتها المعقدة سياسيا واقتصاديا وأنثروبولوجيا، وهو ما أفضى إلى انكشافها على تحولات بنيوية عميقة، وعلى صراعات ذات بعد نرجسي، تلك التي اشتبكت مع تمثلات الهوية والتابو والتعايش والعلاقة مع الآخر، والتي وجد فيها طالب الرفاعي مجالا للكتابة عن سرديات المختلف وحفرياته العميقة.

الرفاعي وكتابة المختلف

سردية المختلف في كتابات الرفاعي فتحت شهوته للمغامرة، لأنها تستدعي وعيا حادا بأسئلة هذا المختلف، عبر مقاربة إشكالاته الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، وعقده في مجتمع يعيش ويواجه تحديات التحول، وإرهاصات التغيير، والوعي الصادم بما يطرحه من حاجات لم تكن مألوفة في مجتمع ما قبل النفط، وهذا بطبيعة الحال، يضع الكاتب أمام مرجعيات متعددة تسند الفعل السردي، ليبدو وكأنه اشتغالٌ في تمثيلٍ متعالٍ للتاريخ كما يقول هايدن وايت، وإزاء علائق تمنح الكاتب طاقة الكشف عن المسكوت عنه، والإصغاء إلى ما تنسجه شخصيات هذا المختلف من سرديات يجسّ من خلالها الرفاعي سيرة التحوّل، بوصفها فعلا تاريخيا، وثقافيا، عبر اعترافات، وأفكار تتبدى عبرها مظاهر التحول، والتغيّر وهاجس المغامرة، ومنها ما يتعالق مع نظرته للتفاصيل والحيوات التي تشتبك مع المكان أو تتحرك فيه، بوصفها جزءا من بنية المشهد الجديد، ومن معطياته وأطره، وتشكلاته، التي جسّد فيها نظرته إلى قضايا التحوّل والتغيّر، وإلى الصدمات التي حدثت في المجتمع، بدءا من صدمة النفط، وصدمة البحر، وصدمة الشخصية المائية، مرورا بصدمة التجارة، وصدمة المكان، وصدمة المال والعمران، وصولا إلى صدمة العلاقة مع الآخر، وانتهاء بصدمة الاحتلال وصدمة الإرهاب. هذه الصدمات هي التي صنعت مجتمع الكويت الحديث، والتي تحولت بعضها إلى مفاعيل اسهمت في صناعة مفهوم سردي لفكرة الأمة/ الجماعة/ الدولة/ البنية الديموغرافية، الهوية/ العلاقة مع المرأة، إذ انكشفت عبرها التناقضات العميقة، والصراعات المحكومة بالتحوّل داخل المجتمع الكويتي بين التقليد والحداثة.. لكن أكثر ما شغل سردية المختلف في روايات الرفاعي برزت من خلال رؤيته للتحولات التي بدأت تظهر للعيان في الاجتماع الكويتي، لاسيما ما يخص قضايا وتناقضات الهوية والتنوع ونزعات الاستهلاك، ومجتمع العمالة الوافدة، ومجتمع البدون، وهي تشكلات باتت تتحرك وتبرز كمظاهر اجتماعية واقتصادية وديموغرافية في مجتمع الكويت الحديث، ولمفهوم المدينة، في تغيّر نمطها، وفي برايغما بطولة شخصيتها، إذ تحول النوخذة إلى تاجر، والمرأة الخبيئة إلى سيدة مجتمع، واللؤلؤ إلى نفط، والبحر إلى مدينة، والابن إلى إرهابي.

الرواية وسردنة الواقع

تفتح روايته «ظل الشمس» أفقا للحديث عن محنة العمالة الوافدة إلى الكويت، وعن ما يحيطها من أزمات وصراعات وبيروقراطية، التي وضعت الشخصية الرئيسة أمام واقعية مرعبة، وأمام تفاصيل يتشوه فيها الحلم، وتُزيد من عجزها ومن إحباطها، ولينتهي مصيرها بطريقة تراجيدية. يضعنا الروائي أمام مصائر متعددة، يجمعها الإحباط والعوز، والفشل والشبق الجنسي، لكنه يضعنا في المقابل أمام رؤية نقدية، يتكشف من خلالها زيف الواقع، وقسوة الغربة، وغياب الحقوق، فضلا عما تكشفه من تعقيدات الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، التي تدفع الكثيرين للهجرة والبحث عن الغنى والثروة، والتي جعلت من دول الخليج النفطية وكأنها الملاذ الإيهامي، دون تبصّر ما يعتور ذلك الملاذ من خفايا تفتقد للبراءة، وينوشها الفساد والطمع والخراب، وعصابات واستغلال، ومشاعر الإحباط الجنسي والأخلاقي. وتعيدنا رواية «رائحة البحر» إلى الحكاية الميثولوجية الشكسبيرية «روميو جوليت» لكن بقناع سردي آخر، يلامس من خلالها الروائي عوالم الأجيال الجديدة في الكويت، وهي تعيش تحولاتها الوجودية والعاطفية، وتحلم بالبحث عن واقع أكثر استعدادا لقبول الاختلاف والتنوع، والنظر لحرية المرأة بوصفها جزءا من سوسيولوجيا التحوّل، لكن الطابع الذكوري للمجتمع، يرهن موت الحب بموت «سوق المناخ» ومضارباته التجارية، ليكون ترميزا لميتات إنسانية أكثر بشاعة ورعبا.

واقعية هذه الرواية، تتجلى عبر قيمتها النقدية، وعبر وعي الكاتب الذي يترك لعين «الكاميرا الساردة» أن ترصد الواقع، عبر الحوار، والحركة، وليظل البحر، وهو أكثر العلامات التي يوظفها الرفاعي في روايته، تعبيرا عما يمثله من قوة رمزية ضافية للمكان والهوية الكويتية وللتطهير والخلاص والشهادة.. وحتى رواية «النجدي» لم تكن بعيدة عن لعبة السرد، وعن اشتغالها على التاريخ والمكان والعلاقة مع الآخر، فالرفاعي يروي عبرها سيرة النوخذة، الذي يعني تاريخه الكويتي، لكن هذه السيرة تنفتح على تخيلات يهجس من خلالها السارد، ببعض رمزية التحول، حيث التحول بالزمن وبالمكان، وحيث يمنح شخصية «النجدي» طاقة حكائية، ليس لمركزة الحدث في زمن محدود، بل للإرهاص بحياة أخرى، وليبدو موته في البحر علامة له، بوصفه تمثيلا للانتماء، وللقوة التي تربط مصير الشخصية بوجودها في البحر، فهذا الربط يتحوّل إلى مادة للسردنة، وإلى مجال مارس من خلاله الرفاعي شغفه بثيمة البحر، وليضع في شخصية «النجدي» كثيرا من الإشارات التي تربط بين الموت الواقعي لـ«النجدي» في البحر، وتفجّر التخيّل السردي، لتتسع لعبة السرد، ولتبدو أكثر نقضا للتاريخ، مقابل استعادة ما يصنعه التخيّل السردي، وما يندفع إليه عبر مقاربة خفايا العوالم الكويتية في تحولها، وفي سرائر حاجاتها العميقة.

الرواية وسرديات الجرح النرجسي

يمكن أن نعد رواية «سمر الكلمات» من أوائل الروايات التي اشتغلت على ثيمة «الجرح النرجسي» إذ سحبت شخصياتها من الواقع لتتمرد عليه، ولتكشف عن أقنعة متعددة لتناقضات التحول في المدينة، وفي عوالمها السرية، عبر تحول تلك الشخصيات ذاتها، في كسرها لتابو النسيج الاجتماعي، وفي تمردها واعترافاتها، وفي نظرتها للحرية والجنس واللغة.. سردية الجرح النرجسي، هي التصريح بعالم مرآوي مفارق، وبحيوات تتحرك بعيدا عن الرقيب، لتعيش وهم حريتها، عبر وهم الجنس، والتجاوز، والإحساس المتعالي بالذاتوية، وهي التي تقود إلى مواقف من الصعب ضبط إيقاعها، والنظر إليها بوصفها جزءا من التحوّل الذي استغرق المدينة، وأطاح بالمركز القديم لسلطتها، وباتجاه أن تكون كتابة هذه الرواية مفتتحا لروايات جسّت عبر «الجرح النرجسي» تحولات فارقة تبدت في المجتمع الكويتي، وفي بنية أنثروبولوجويته المركبة.

كما تعدّ رواية «حابي» نصا سرديا إشكاليا أثار حوله جدلا واسعا عن سرديات الجسد المقموع، الجسد الجندري، أو الجنسي، إذ عمد الرفاعي إلى اختيار ثيمة التحوّل الجنسي إلى عتبة للدخول إلى الممنوع، وإلى خاصية الصراع داخل الجسد ذاته، بوصفه تمثيلا لعقدة الخصوصية، ولرهابها في بيئة ذكورية، ترى فيه جزءا من سلطتها وخطابها.

لقد أراد الرفاعي عبر هذه الرواية، أن يوسع خطاب التحوّل، عبر نقله من السوسيولوجي إلى المونولوجي، حيث يبدو صوت الجسد الوحيد، هو تمثيل لهويته ورمزيته، ولتحوّله الفارق، ولتعرية أزمته إزاء النسق العائلي والجندري والسلطوي، الذي يجد في الآخر حلاً له، بوصفه الآخر الأنطولوجي، الذي ينظر للتحول ذاته، بوصفه اعترافا وخلاصا.

وفي روايته الأخيرة «خطف الحبيب» يجاهر الرفاعي بحمولات «جرحه النرجسي» عبر شخصية «الابن» المتحول، من البيئة الارستقراطية المتعالية، إلى البيئة الإرهابية الهابطة، ومن أيديولوجيا الطبقة، إلى أيديولوجيا الجماعة، ومن أيديولوجيا الشركة إلى أيديولوجيا الخندق.

عبر هذا التحوّل يكشف الروائي عن أزمة شخصياته الأخرى، إذ هي شخصيات مسكونة بالاغتراب، عن المكان، والعائلة، والهوية والجسد، وعائمة في عالم تختصره حياة «يعقوب» في شركته وفي عائلته، حيث تستغرقها كثير من العيوب الاجتماعية والثقافية، ومن العلاقات التي يساكنها المهمل، والمقموع والاستهلاكي والشبق الجنسي.. ثيمة الجرح تتحول إلى شيفرة إدانةٍ لواقعٍ، ولأفكارٍ متعالية وغامضة، ولعالمٍ يضعه التخيل السردي للرواية، أمام وقائع تنفر عن الرقابة العامة، لتؤسس لوجودها المضطرب عبر قوة خفية، تلك التي تتسلل برعب للعائلة والنظام الاجتماعي والسياسي، لتقوّض سلمها المديني والعاطفي، وحميميتها الساكنة، وليبدو الابن المتحوّل وكأنه تمثيل لهذا التقوّض، ولهشاشة البنية المؤسسية، وهي تسهو عن رؤية تغوّل الأدلجات والجماعات العنفية التي تتستر نسقيا بعديد المؤسسات القامعة رمزيا في المدرسة والجامع والشركة.

كاتب عراقي










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي