المغربي مصطفى أمادي: حركة الترجمة العربية في سبات دائم

2021-12-13

حاوره: عبد الخالق النجمي

مصطفى أمادي مترجم وأكاديمي في جامعة عبد المالك السعدي، والمحاضر في عدة جامعات أوروبية، أصدر العديد من المؤلفات والترجمات عن الإسبانية، منها.. «المصطلحات الإسبانية من أصل عربي» و«تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية» وكذا موضوعات تخص العلاقات المغربية الإسبانية والتراث الأندلسي، والحضور العربي عموماً في شبه الجزيرة الإيبيرية. عن الرجل وما قدمه للمكتبة العربية كان هذا الحوار

متى وكيف بدأ اهتمامك باللغة والأدب الإسبانيين؟

اهتمامي باللغة والأدب الإسبانيين بدأ يتبلور حين بلغت سن السادسة عشرة، وجاء ذلك بالمصادفة، حين اكتشفتُ أن المصطلحات العربية الموجودة في القواميس الإسبانية كثيرة ومتعددة، وتخص جميع المجالات، كالفلاحة والهندسة والفن والطبخ، فاستهوتني وأنا في زيارة لقصر الحمراء في مدينة غرناطة لأول مرة في حياتي، تلك الانسيابية والجمالية في نطق الحروف العربية بلغة ثربانتيس، ومنذ ذلك الوقت أحببتُ وعشقتُ الجانب الصوتي للغة الإسبانية بمصطلحاتها العربية، فكان اهتمامي باللسانيات، والقواميس الإسبانية، والمخطوطات الأندلسية وترجماتها.

وما هي أهم المجالات والأعمال التي ترجمتها؟

ترجَمتُ الشّعر والنثر وأستمتع كثيرا بترجمة التراث الأندلسي والنص الديني، في إطار الوسطية والاعتدال التي تُميّز المذهب المالكي في المملكة المغربية. كما تعجبني ترجمة النصوص الأدبية، لأن نقلها إلى لغات أخرى هو بمثابة الإبداع والمغامرة، فقمت على سبيل المثال، بترجمة «رسالة إلى الأمم المتحدة» وديوان «مواويل الشجن» للشاعرة سميرة فرجي. ترجمتُ كذلك كتبا دينية عن أركان الإسلام. فاختياراتي للعناوين التي أترجمها يحدِّدها ما يخدم الوطن العربي والقضايا الوطنية، لأن الترجمة في نظري هي قبل كل شيء التزام بالقضايا، وعمل إبداعي بعيد عن ترجمة التفاهة. أبحث من خلال ممارستي للترجمة أن لا أكون منظِّرا للمادة، بل ممارسا لها بالدرجة الأولى، لأن من ينقل من العربية إلى لغات أخرى، يبحث عبر ترجماته عن تأصيل التقارب والحوار داخل ثقافات متعددة المصادر. هناك العديد من التراجمة الذين يرفضون إلى الآن ترجمة الشّعر العربي، بفكرة مسبقة كانت سائدة عند القدامى، ما زالوا إلى اليوم يأخذونها في عصر الترجمة بامتياز مأخذ البديهيّات، وهي اعتبار الشعر العربي ببحوره وأوزانه، ميزة اللغة العربيّة التي لا تتقاسمه ولا تشاركنا فيه بقيّة الأمم. وهي طبعا فكرة خاطئة، لأن الشعر بأوزانه شائع كذلك في كل الأصقاع، ومشترك بين كلّ اللغات والحضارات.

لقد ترجمتَ كتاب «التاريخ الوجيز لمحاكم التفتيش في إسبانيا» للكاتب جوزيف بيريز. كيف جاءت الفكرة؟

استجابة لعرْضٍ من قبل مؤسسة إماراتية، تَرجمتُ كتاب «التاريخ الوجيز لمحاكم التفتيش» من لغة موليير إلى لغة الضاد، نقلتُ بشغف كبير كتاب جوزيف بيريز إلى العربية، لأنه ببساطة يتحدث عن موضوع يهم القارئ العربي المسلم والأرثوذوكسي والكاثوليكي واليهودي، وهو موضوع محاكم التفتيش الإسبانية، التي عاقبت المهرطقين والآلاف من الضحايا الأبرياء، من أجل مساعدة وتمكين الكنيسة من التحكم في الشأن السياسي والديني.

أعدَدْت دراسة مهمة حول المصطلحات العربية في اللغة الإسبانية، ما هي أهم نتائج وخلاصات هذه الدراسة؟

كما قلت بداية، أحْببْت الترجمة واللغة والمواضيع المرتبطة بالحضور العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية، من خلال المصطلحات العربية الغنية الموجودة في اللغة الإسبانية، التي هي إحدى السِّمات التاريخية التي تشْهد إلى اليوم على أن المسلمين من عرب وأمازيغ، أسّسوا حضارة عظيمة في شبه الجزيرة الإيبيرية، أغْنت القاموس الإسباني والبرتغالي والفرنسي بمصطلحات عربية حاضرة إلى اليوم في مجالات متعددة، شملت العمران والفن والزراعة والهندسة، ومكّنت الأندلس المفقود والموجود في آن واحد، من أن يصبح مركز إشعاع في أوروبا ومحجّ طلاب العلم والمعرفة، وأنا سعيد جدا بهذا العمل، الذي عنوَنتُه بـ«تاريخ وتطور المصطلحات العربية الموجودة في قواميس أكاديمية المملكة الإسبانية منذ 1726 إلى سنة 1992» خصوصا أن الترجمة هي اليوم فعل ضروري لتدبير الاختلاف والتحاور في مجتمعاتنا.

سبق أن نشرتَ كتابا عن المخطوطات العربية الأندلسية في المغرب وإسبانيا، كفضاءات مشتركة، ماذا عن هذه التجربة؟

هذا الكتاب هو الجزء الثامن من السلسلة الموسوعية «ربيع المخطوط الأندلسي». فالمخطوطات العربية الإسلامية الأندلسية تعدُّ بمثابة كنز نفيس تمتلكه الشعوب، وتعتز به الحضارة الإنسانية، وقد ساهم العلماء المغاربة في أرجاء المعمورة عبر التاريخ، في إنتاج وترجمة هذه المخطوطات وتداولها، وعيا منهم بأهمية هذا التراث الإنساني، باعتباره مصدرا من المصادر الثقافية والمعرفية. في هذا الصدد، جاء نشر الكتاب كفضاء مشترك يغني رفوف العديد من المكتبات، والزوايا والمساجد والكنائس، والخزانات والمنارات في المدن التاريخية المغربية والإسبانية إلى اليوم، برصيد ثقافي وحضاري دوّنه العلماء والفقهاء والأدباء.

وهل تعتقد أن المخطوط الأندلسي لم يحظ بالاهتمام المناسب؟

قطعت دراسة وتحقيق المخطوطات الأندلسية أشواطًا لا بأس بها في أقسام الدراسات العربية، وشعب الفلسفة والتاريخ، إلا أن ترجمة المخطوطات والإلمام بقواميس ومصطلحات الكوديكولوجيا (علم المخطوطات) فما زال حبيس تجارب قليلة، أو أطروحات دكتوراه معدودة، وهو ما أكدت عليه ندوات ربيع المخطوط الأندلسي، التي تعقد في المغرب، وندوة دولية في الموضوع عُقِدت مؤخرا في جامعة أشبيلية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية. فكل مخطوط أندلسي، سواء كان في مكتبة خاصة أو عامة، هو قيمة مضافة للتراث المكتوب، شكلا ومضمونا، مادة ومنهجا، تخصصا وتنوعا، وبالتالي، فإن إحياءَ هذا التراث ونشره ودراسته وترجمته، هو في حد ذاته إحياء للفكر وفق منهجية علمية صحيحة ومعروفة لدى دارسي ومحققي وتراجمة المخطوط.

اهتممت بالترجمة الدينية، فقمت بترجمة الدروس الحسنية. ما هي صعوبات تلك التجربة؟

منذ سنوات وأنا أترجم بحب وشغف كبيرين، الدروس الحسنية التي تُعقَد في شهر رمضان المبارك، وتُنقلُ مباشرة على شاشات الإذاعة والتلفزيون المغربية، لأنها نصوص ثرية وغنية وراقية، تحتمل مواضيعها عددا غير محدود من وجوه التأويل الصحيح، وبالتالي فترجمتها إلى الإسبانية هو تخصُّصٌ والتزام مؤسساتي يمكِّنني، بتوفيق من الله، من الكشف عن مكنوناتها المتعددة، كنتاجٍ للتفاعل بين النص وقراءاته باللغة الإسبانية. ترجمة النص الديني تتطلّب الصرامة الكبرى في تقدير المسؤولية العلمية، والقبول بمعناه اصطلاحا وإيمانا، وتقع عاقبة الاختلافات فيه للأسف، على عاتق بعض مترجميه ومُؤَوليه من أهل عدم الاختصاص، لذا فإن نقل الدروس الحسنية التي تكون في حضرة ملك المغرب في شهر رمضان، هي سُنة حميدة في مجال الترجمة من أجل قراءة النص الديني في كُلِّيته، بعيدا عن ضروب الرؤية الحرفية لمعانيه.

هل تتفق مع قول بعض المختصين في الترجمة بأن الترجمة الدينية هي الأصعب؟

هناك صعوبات ومعوقات وإشكالات تواجه المترجم أثناء ترجمته لجميع النصوص، إلا أن بعض النصوص كالشعر والنص الديني تحتاج إلى القراءة المتأنية، التي تساعد على تفهم عميق للسياق، وما بعد السياق، وبالتالي تصعب على المترجم ترجمة النص الديني، دون العودة إلى الشروح والتفاسير والقواميس الدينية. ونحن إذا ما رجعنا إلى تجارب بيت الحكمة في العصر العباسي، أو إلى التجربة الرائدة لمدرسة المترجمين في طليطلة في إسبانيا، وَجَدنا أن الترجمات تعددت للنص الواحد، لأن كل التجارب الترجمية قابلة للتكرار والتعديل. النص الديني له خصوصيات، وترجمته تحتاج إلى خطاب مجدد في لغة أجنبية كالإسبانية، وفي الظروف التي نعيشها اليوم من اصطدام للحضارات، وبالتالي لا يمكن أن تتم الترجمة في انفصال عن السيرورة الثقافية والمعرفية، التي يتشكل داخلها المعنى. على هذا الأساس، فإن الفجوة القائمة اليوم في تأويل النصوص، تنبثق من عدم معرفة معاني الظاهر والباطن، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ. بمعنى آخر، إن مقاصد ترجمة النص الديني من العربية إلى أي لغة حية أخرى، لا يعني أبدا أن مضمراته التجديدية تبقى غائبة، لأن النص الديني وترجَمته ترجمة فيها الوسطية والاعتدال، لا يستقيمان دون استراتيجية تأويلية، تراعي مرجعيات الاجتهاد، والقياس وأدوات اجتهادية أخرى.

كيف تنظر لحاضر ومستقبل الترجمة في المغرب والعالم العربي؟

حركة الترجمة عموما في الوطن العربي هي في سبات عميق أو تكاد، ويؤسفني قول ذلك، لأننا نحن العرب والمسلمين كنّا دائما أصحاب ماض تليد في هذا المضمار، وأصبحنا لا نترجم اليوم إلا القليل، وأحيانا التافه من الكتب مقارنة بالدول الغربية. للأسف الكبير أيضا، لا توجد في الوطن العربي إرادة سياسية تجعل مادة الترجمة من الأولويات في الحركة الأدبية، اللهم إلا إذا استثنينا بعض الدول بنسب جد قليلة وضئيلة، كلُبنان ومصر والمملكة المغربية، التي انطلقت فيها مؤخراً بعض الإشارات من مؤسسات وطنية، كأكاديمية المملكة المغربية، التي تحاول أن تعيد للترجمة بريقها في المستقبل. ونتمنى أن ننجح في أن تكون لنا مستقبلا سياسة حكومية، ومبادرات مؤسساتية، تستحضر جميع الشروط المحيطة والضرورية لعودة البريق لمادة الترجمة.

وما هي النصائح التي تود تقديمها للمترجمين الشباب؟

نصيحتي لكل مترجم شاب هي أن يكون بمثابة القارئ المثالي للنصوص المختلفة، الذي ينتج بترجمته نصا جديدا في اللغة، يُلبّي كل معايير اللغة، من حيث الأسلوب، والسياق، وترتيب الأفكار، لأنه لا يكفي أثناء الترجمة استخدام المصطلحات السليمة فقط، والتي يمكن اليوم العثور عليها عن طريق البحث في محركات الإنترنت. أتذكر ونحن ِنتعلم على أيدي أساتذتنا الذين علّمونا أن الموهبة والكفاءة والتمكن من نقل نص إلى لغة أخرى بصورة أجمل، هي أدوات المترجم الناجح، وأن النص الذي نترجمه سيظهر نفسه بهذه الأدوات ويلفت الأنظار. على المترجمين الشباب التحلي بالصبر، واختيار المواضيع التي تفيد العالم العربي والقضية الوطنية، وأن ينظروا إلى كل النصوص التي يترجمونها بعين الكاتب، ويضعوا أيضا أنفسهم مكان القارئ، وهذا هو سر النجاح.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي