الروائي العراقي علي غدير: الكاتب ينظر إلى التاريخ من شرفته

2021-12-06

حاوره: مروان ياسين الدليمي

قدم لنا المشغل السردي في العراق خلال العقدين الأخيرين، قائمة طويلة من الأعمال الروائية، وكان ذلك على حساب تراجع واضح في الكتابة القصصية، والروائي علي غدير يعد ضمن الأسماء التي عكست هذا التحول في المزاج لدى العاملين في ميدان الإبداع القصصي، فبعد أن قدم نفسه باعتباره قاصا بعد عام 2003، إلاَّ أنه انعطف بتجربته وقدم لنا رواية حملت عنوان «سفاستيكا» نال عنها جائزة بغداد للرواية العراقية عام 2016، كما وصلت إلى القائمة الطويلة من جائزة البوكر بنسختها العربية عام 2017، وما لفت إليه الانتباه أن تجربته الأولى كانت على قدر كبير من الجرأة الفنية، لأنه تصدى لأحداث ما زالت تداعياتها تتفاعل مع حياة العراقيين، فكان من الطبيعي أن يعاد طرح إشكالية العلاقة بين الرواية والتاريخ، ومن هنا كانت نقطة ارتكازنا في هذا الحوار الذي أجريناه معه.

هناك محاذير كثيرة تقف أمام الروائي عندما يتعامل مع وقائع وشخصيات معاصرة، كيف تعاملت مع هذه الإشكالية؟

من الأولويات المهمة أن يبحث الكاتب عن الحقيقة، ويتعمق في جذورها، ويحلل تفاصيلها، بيد أن الأهم من ذلك كله؛ هو كشفها أمام القارئ. وهنا يعتمد الكاتب على قدراته الفكرية ومهاراته في الكتابة. فالكاتب لا يبتغي من وراء طرح الحقيقة أن يطعن في أشخاص معينين، إذ تلك ليست مهمته، بل عليه أن يطرح الحقيقة بأسلوب فني يمكّن القارئ من استنباط رسائل مُهمة؛ ضمّنها الكاتب في نصه، ما يعني أن القضية هي المهمة الأساس؛ وليس شخوصها. فالظلم مثلاً قائم باستمرار، يمارسه (س) و(ص) وعلى الكاتب أن يطرح موضوع الظلم أمام القارئ، وإمكانية مواجهته وتحديه من قبل المظلوم، وبالتالي انتصار المظلوم على الظالم وزهق الظلم. كل ذلك من خلال نص فني جميل، ولا ضير من تغيير أسماء الأشخاص الحقيقيين، لا خوفاً ولا تهرباً، بل ترميزاً للقضية وتهميشاً لهم؛ لاسيّما إذا انتقى الكاتب في هذا المقام أسماء ذات مدلولات تراثية وفكرية. أما الوقائع التي يتعامل معها الكاتب، وهي لا تزال حيز التداول، فهذه مطروحة من وجهة نظر الكاتب الذي يجب عليه أن يكون (خارج الصندوق) ليُبين وجهات نظر محايدة لا تميل لأحد على حساب الثاني. ولا يتحتم أن توافق وجهة نظر الكاتب كل وجهات النظر، بل من الضرورة أن يطرح الكاتب وجهة نظر مغايرة لما هو مألوف، من أجل فتح أفق جديد أمام القارئ. في روايتي «سفاستيكا» حاولت جهد إمكاني أن أقف موقفاً متزناً مع الرئيس العراقي الأسبق، مثلاً؛ فأبين أنني لست معه ولا ضده، وربما نجحت إلى حد ما في تحديد هذا الموقف، وكانت رسالتي من وراء ذلك هو أن أستعرض أمام القارئ تجربة الوقوف بمسافة متساوية من الأشخاص ومن القضايا.

إلى أي مدى كنت تفكر بالشكل الفني؟

إلى الحد الذي لا يؤثر فيه على الأبعاد الأخرى، حرصت على أن تتوازن أركان الرواية قدر الإمكان، أنا لا أميل إلى لوحات (خط الطُغراء) التي تظهر صورة مبهرة للحروف والكلمات؛ لكنها تربك القارئ، حتى أنه لا يفهم المكتوب في اللوحة إلا باستذكار النص، أو بالرجوع إلى مختصين.

هل يحق للروائي أن يتلاعب بالأحداث التاريخية؟

الرواية ليست كتاب تاريخ يُستند إليه لدراسة الأحداث، بقدر ما هي عمل فني يوظف التاريخ كمفردة مهمة من مفرداته، ويمكن للكاتب أن يغير بعض الملامح التاريخية التي لا تؤثر في سيرورة التاريخ غالباً، لكنها تحمي الكاتب من مطبات قانونية قد تندرج تحت عناوين كثيرة. وأنا على يقين بأن الأحداث التاريخية هي بالأصل منقولة بشكل مشوه، لأن رواة الأحداث ينظرون إلى الحدث كل من زاويته وفق مصالحه، أما الكاتب فينبغي أن ينظر من الشرفة (من خارج الصندوق) ليرى وجهات النظر المتباينة؛ ورحم الله معروف الرصافي الذي قال:

وَمَا كُتُبُ التَارِيْخِ فيْ كُلِّ مَا رَوَتْ

لِقُرَّائِهَا إلَّا حَدِيْثٌ مُلَفَّقُ

نَظَرْنَا بَأمْرِ الحَاضِرِيْنَ فَرَابَنَا

فَكَيْفَ بِأمْرِ الغَابِرِيْنَ نُصَدِّقُ

يحق للكاتب أن يظهر جوانب إنسانية في شخصية دموية، مثل أن يظهر (هتلر) مبتسماً وهو يداعب طفلة صغيرة، ولا ريب في أن هذا قد حدث لهتلر يوماً ما، بيد أن العقل الجمعي أظهر هتلر متجهماً قاتلاً على مدار الذاكرة الإنسانية. وسوف نجد القارئ متفكراً وهو يقرأ عبارة (نظر هتلر إلى اللوحة، داعب بسكينة ذؤابة طفلته التي رسمتها، قال لها بهدوءٍ مبتسماً: «ستصبحين رسامة عظيمة يا حبيبتي») سيتوقف القارئ ملياً أمام هذا المشهد الإنساني الذي لا يتوقعه من مجرم سفاح اصطبغ العقل الجمعي بدمويته، ويعيد القارئ حساباته، أن هذا التفكر لدى القارئ، هو ما يمنح الكاتب صفة التألق.

أنت بدأت كاتباً قصصياً، ما الذي دعاك إلى الانتقال ناحية الرواية؟

الرواية هي هاجسي الأقدم، مذ كنت يافعاً، كان والدي يلقنني روايات عن أبطال البادية كنمر بن عدوان وذياب الزغبي وساجر الرفدي، منمقة بقصائد بدوية صعبة المفردات. وكنت أحفظها عن ظهر قلب؛ دون أن أفقه معاني بعض المفردات. وتطور الأمر معي إلى القراءة، حتى أنني قرأت رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو وأنا لم أتجاوز التاسعة من عمري، الأمر الذي دفع أخي الكبير إلى تأنيبي؛ لأنني اخترت الرواية من بين مقتنياته. وحين أراد أن يعيد تنظيم أفكاري اشترى لي قصتَي أطفال هما «سائق الشاحنة» و»الأشياء العجيبة» ولم تنالا إعجابي على الإطلاق. وما أثار غيظ أخي أنه حين سألني عن الأغاني التي أحفظها، اكتشف أنني أحفظ أغنية (فكروني) لأم كلثوم. قد تكون هذه هي الإرهاصات المبكرة التي ترعرعت عليها، وكانت ذات أثر عميق في ميلي نحو فن الرواية، إلا أن نقطة التحول الرسمية كانت على يد الروائي العراقي فاضل العزاوي، الذي استنصحته في سلوك طريق مناسب لي في الكتابة، فطلب مني أن أرسل له نماذج من كتاباتي، وأرسلت له قصيدتين وقصتين ورواية، وبعد أسبوع رد علي بأنني لست شاعراً، ويمكنني أن أحتفظ بقدرتي على نظم الشعر لكي أكتب لأصدقائي وحبيبتي، أما الرواية فإنها لم تنل إعجابه على الإطلاق، على عكس القصتين اللتين أعجب بهما، وأوضح أنني أستطيع أن أكون روائياً؛ لو طوّرت قدراتي في كتابة القصة وهكذا فعلت، وبعد سنة من التواصل رشحني للمشاركة في ندوة البوكر للروائيين الشباب، التي انعقدت في أبو ظبي سنة 2011. وهناك تبلور مشروع كتابة رواية «سفاستيكا» على يد الكاتب السوداني أمير تاج السر والكاتبة المصرية منصورة عز الدين.

ما حدود الحرية التي يتحرك فيها المؤلف؟

الكاتب له مساحة من الحرية تتيح له اختراع شخصيات لم تكن موجودة في الحدث التاريخي، لكي تضفي هذه الشخصيات ملامح فنية على المضمون تحببه للمتلقي، بيد أن الكاتب غير مسموح له بصناعة شخصية تاريخية مؤثرة في سير الأحداث. كذلك الأمر بالنسبة للأحداث، فهو قادر على صناعة أحداث جمالية تجعل النص ممتعاً شرط أن لا تشوه الحقيقة التاريخية. كما يمكن للكاتب أن يخفي بعض الحقائق، ويموه عليها، ولا يحق له تحريفها بأي قدَر.

ما الذي يميز الكتابة الروائية عن بقية الأنواع الأدبية، ويجعلها تتصدر اهتمامات الكتاب والقراء؟

لعل القارئ يستمتع في التفاصيل والحوارات التي تميزها عن القصة، لذلك نجد أقل صنوف الكتابات شعبيةً هي القصة القصيرة جداً، رغم ما تتضمنه من مكنونات مختزلة تخاطب العقل اللبيب. ونجد أكثر المسلمين حين يقرؤون القرآن الكريم يميلون إلى قراء سورة (يوسف) المباركة، لما تحتويه من سرد تفصيلي بديع من بداية القصة حتى خاتمتها، وكأنك تقرأ رواية – ولله المثل الأعلى – إذ تشدك تفاصيل الأحداث وروعة الحوارات حتى النهاية. من هنا أجد القارئ عموماً يميل إلى الرواية أكثر مما يميل إلى القصة، وإلى الأنواع السردية الأخر؛ وبناءً على ذلك تجد الكاتب يسعى جاهداً للوصول إلى مرتبة الروائي لعله يحظى بجماهيرية أكبر، وبتميز عن أقرانه.

هل من حدود تقف عاجزاً عن تجاوزها؟

أصدقائي المتدينون يظنونني ملحداً، وأصدقائي الملحدون يظنونني متديناً؛ والحقيقة أنني إنسان سوي، أتعامل مع الحياة بوضوح، ومع الناس بشفافية، ولا أتجنب سوى الحدود التي رسمها الخالق سبحانه وتعإلى لضبط سيرورة الحياة، وتراتب صيروراتها. أما حدود القانون

والأعراف والذوق العام، فإنني أراعيها؛ وإن تحتم عليّ أن أتجاوزها فلن أتردد، بل قد أعالجها إن وجدت ذلك بمقدوري.

وأنت تكتب بمن تفكر؛ بالقارئ، بالجوائز، أم بالانتشار وتحقيق أكبر نسبة من البيع؟

أفكر بالقارئ؛ حتى لو كان واحداً لا سواه. ولا أفكر بالجوائز، لكنني قد أفكر فيها بعد أن أجد كتابتي قد نالت رضا الكثيرين، أما الانتشار فهو دأب المغمورين؛ وأنا أسعى لأن تنتشر أفكاري لا أن أنتشر بذاتي، لأنني أحبذ أن أعيش حياتي الهادئة المستكينة. وأما نسب البيع فلا أجهد نفسي بها حالياً.

ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟

إنني أجد أن كلمة (كتب) من أخطر الكلمات التي مرت على العقل الجمعي العربي، فالمتمعن في الكلمة يجد الكتابة تعني التأليف، أو التوليف؛ أي صناعة الألفة بين مفردات مختلفة ذات صلة، للوصول إلى نتيجة شاملة تؤدي إلى الغرض منها. فالكاتب يؤلف ما بين حروف وأفعال وأسماء ليستنتج من خلال ذلك (الكتاب) والمهندس يؤلف ما بين منضدة وأوراق وأقلام وأدوات وموظفين؛ ليستنتج من خلال ذلك (المكتب) والضابط يؤلف ما بين جنود وأسلحة وآليات؛ ليستنتج من خلال ذلك (الكتيبة). ونلاحظ من خلال هذه النظرية أن (كل شيء مكتوب) تعني أن كل شيء مؤلف من مفردات لو صيغت ضمن سياق منتظم لنتجت عنها النتيجة المنتظرة، فالرزق مكتوب، أي أنه مؤلف من مفردات، لو وضعت ضمن معادلة صحيحة لنتج عنها جني صحيح للرزق، ولو وضعت ضمن معادلة مغلوطة لضاع الرزق، وحينها سيعلق المخطئ خطأه على شماعة متخيلة يسميها (المكتوب) ظناً منه أن رزقه كتب في الملكوت قبل أن يخلق، وهذا خطأ محض، لأن الله تعإلى حين خلق الأرض قدّر فيها رزقها إلى يوم القيامة لأي شخص يسعى لاستحصاله (… وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ)؛ سواء أكان الشخص السائل مؤمناً بالله أم كافراً به. وهكذا؛ ضمن هذه النظرية نفهم معنى أن الموت مكتوب، يدل على أن الموت مؤلف من مفردات لو انتظمت ضمن معادلة لتحقق لا محالة، أما لو أننا كسرنا المعادلة بالدواء أو بالعملية أو بالدعاء أحياناً لتوقفت المعادلة إلى حين. غير أن العقول الغريرة تتصور أن الله تبارك وتعإلى كتب الأحداث منذ الأزل بقلم على ورق، وهذه المخيلة الموروثة هي التي تأخرت بنا كثيراً عن ركب الإنسانية المتقدم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي