رواية «منُّ السّماء» للأردنية غصون رحال: بين السّرد النسوي وتواطؤ الخطابات المؤسساتية

2021-11-26

رامي أبو شهاب

بروايتها الصادرة عن دار «العائدون للنشر» 2020 تقدم الروائية الأردنية غصون رحال، عبر متخيل سردي يتصل بأزمنة الراهن، وأزمته، بالتوازي مع تعدد الفضاءات المكانية، خطاباً مركزه نقد مؤسسات دولية، لم تتمكن من تحقيق غاية وجودها، ومن خلف ذلك تكمن حيوات نسوية تسعى لأن تحكي جزءاً من متلفظ الضحية، وكما يقول ميشيل فوكو أينما وجدت السلطة ثمة مقاومة.

هكذا تسعى غصون رحال لأن تجعل من روايتها صيغة أو عيناً للرؤية تعكس مشهدية بانورامية عبر الارتكاز على بيان زيف المرجعيات، سواء أكانت حقوقية أم أيديولوجية تبعاً لتجربة الكاتبة، وخبرتها القانونية.

النموذج السردي

تنهض الرواية على سرد متعدد الأصوات، يتخذ في تكوينه بعداً أفقياً لا يعتمد كثيراً على التداخل العميق بين شخصياته على مستوى العلاقات وتمحورها، بمقدار ما يتصل هذا السرد بمخاض الشخصية مع ماضيها، والمكان الذي شكل مرجعيتها ووظائفها، غير أن هذا التعدد في تكوين الشخصيات، وتمكين كل شخصية من فضاء ما، يُعنى بمحاولة الرواية، لأن تلقي بظلال التأمل السردي على نطاقات جغرافية متعددة، مركزها الذات الشاهدة.

كذلك تقوم الرواية على شخصيات تعمل في منظمة حقوق الإنسان في سويسرا، بيد أن تلك الشخصيات تبقى مشدودة إلى ماضيها، ومرتهنه لواقعها، كما استيهاماتها التي صاغتها، وهنا تفعل بعض التشكيلات النفسية في رسم ملامح الشخصيات، حيث الهواجس والأحلام واضطراب ما بعد الصدمة، والأيديولوجيا، التي تعمل مجتمعة باعتبارها جزءاً من تكوين الخطاب على مستوى بناء الشخصية، ولاسيما شخصية (عهد) تبعاً للتكوين الدلالي، وما يمكن أن ينشق عن ذلك من مستويات أخرى شديدة التنوع، لكنها تبقى مسكونة بمقولات بدت في بعض الأحيان رهينة المخاض العربي، ونعني تمكين البعد النسوي، والإرهاب، والربيع العربي، وفساد السلطة، أو بمعنى آخر خيبات تطال كل شيء.

يمكن القول إن التكوين السردي القائم على هذا التعدد المتصل بكل شخصية، بدا في بعض الأحيان مربكاً للقارئ، الذي يحتاج إلى جهد كي يتمكن من تتبع خيوط السرد المتصلة بكل شخصية، ولاسيما أن الشخصيات لا تتغاير من حيث التكوين المبدئي، فثمة حضور واضح للشخصيات النسوية (نموذج الضحية) التي تفوق الشخصيات الذكورية بتكوينها الهامشي، على الرغم من محاولة الروائية توظيف تلك الشخصيات (الذكورية) لكنها في المجمل بدت بلا استناد لوظيفة سردية واضحة أو فاعلية حقيقية.

تستند معظم الشخصيات النسوية (خاصة) إلى مرجعيات متعددة، غير أنها تنطلق عادة في سردها من ماضوية، بحيث تعتمد تقنية الاسترجاع، من أجل ربط الأحداث عبر تقنية التداعي، ويبدو أن هذا أثقل فعل التتبع، ولاسيما مع وجود بعض العناوين، التي لا تتصل بأسماء الشخصيات، غير أن هذا التشييد السردي ناتج عن مزاجيات النص، التي تنهض على التكوينات ذات الطابع الذهني، المتصل بنزعات تتعالق بالنسيج النفسي للشخصية، وعلاقتها بالحدث، حيث الأثر ينتج في وعي الشخصية التي ما فتئت تمتصنا نحو ظلال وعيها الخاص في سرد متصل بالمكان المستعاد نتيجة حدث، أو عبر تتبع اكتشاف ما يتمحور حوله. هكذا تبدو الفصول عالقة في وعي تلك الشخصيات، وتراكمات تنهض على الخطاب القائم في مجال فداحة الأمل والخسران والقسوة، بحيث نلمس ذلك في تقارير موظفي منظمة حقوق الإنسان، وهم يمارسون وظيفة توثيق الألم، لكنهم لا يسلمون من نواتجه في كل من: سوريا والعراق وفلسطين، وأفغانستان وافريقيا الوسطى وليبيا، وغيرها.

التقاطع الدلالي

تبدو التقاطعات الدلالية جزءاً من أزمة الذات في مواجهة هذا العالم، بالتجاور مع نقد المنظومة المؤسساتية المتصلة بالأنظمة، والمؤسسات الدولية، كما فساد الأيديولوجيات الدينية المتطرفة، ومؤسسات المجتمع الذكوري، التي أفرزت مجتمعة، هذا العوار الأخلاقي الذي أتخم حياة الإنسان بتكوينه المطلق لا المتصل بجغرافية معينة، إذ تبدو مرجعية السرد أقرب لإطار تأثرها بمناخات السينما، ومحاولة رصد الأحداث المستعادة لبعض التفجيرات هنا وهناك، أو ظاهرة فعل الاغتصاب، وحرق النساء، والتنكيل بالآخر، كما اغتصاب الأطفال، والتركيز على تقنية الحكي الناتج الذي تضطلع به الشخصيات، ولاسيما النسوية، مع نموذج معمق لمتابعة نتاج ما بعد الصدمة، ولهذا تتشكل الذوات بوصفها معطوبة، لا لكونها تعايش هذا الحدث نتيجة تجربتها وحسب، إنما هي نتاج مشوه تبعاً للماضي، أو للنشأة، وغير ذلك، وهكذا يبدو الانشغال بمروية الضحية جزءاً من محاولة تقديم هذا الخطاب، فالضحية نتاج ذاكرتها، مع تأكيد حضور الأثر الفيزيائي للألم، لكنه يتشكل ضمن طيف اللغة التي تمسي تمثيلاً لهذه الفيض من الانحراف الذي يسكن عوالمنا على شكل أحلام، وعطب في الذاكرة.

تنهض الرواية على سرد متعدد الأصوات، يتخذ في تكوينه بعداً أفقياً لا يعتمد كثيراً على التداخل العميق بين شخصياته على مستوى العلاقات وتمحورها، بمقدار ما يتصل هذا السرد بمخاض الشخصية مع ماضيها، والمكان الذي شكل مرجعيتها ووظائفها.

تكمن إمكانية السرد عبر ذخائره النصية حسب نظرية التلقي، ولاسيما قدرته على تمكين ذلك عبر نماذج معرفية تتصل بأفق الملتقي، الذي يحفل بالكثير من خبرة لا تحتاج إلى فعل توصيف، ومن هنا يمكن أن نقول إن هذا يعد من العوائق التي يمكن أن تُفقد بعض النصوص الفاعلية السردية، فيبدو النص جزءاً من سرد مجاني لأحداث لا تتصل بتمكين أو فتح أفق الدلالة، ولاسيما مضمون المعرفة التاريخية على مستوى الواقع، غير أن رواية غصون رحال ـ وإن بدت في هذا الأفق- لكنها سرعان ما شكلت قطاعات دلالية يمكن أن نجملها في مستويات محددة؛ أهمها القرب من سخونة الحدث المتصل بفوضى السنوات العشر الأخيرة، فضلاً عن قطاعات أخرى تتصل بالذات النسوية، فثمة بيان واضح لتوصيف فظاعات الحرب عبر التشديد على مقاربة تجارب نساء استأثرن بكتل النص كإحدى ملامح الكتابة النسوية التي ينبغي أن نتحوط من الإغراق فيها، كونها تنمط الكتابة السردية لدى الروائيات فتمسي النماذج متشابهة، لكن يحسب للعمل بأنه سعى (بتمكن) إلى تجسيد التشوّهات المتصلة ببعض هذه المتعاليات الخطابية، وتعريتها، وهكذا تسعى الرواية إلى أن تتبنى موقفاً إنسانياً شمولياً، ومن ذلك ما أشارت له في أفغانستان، وبعض الصور المغلوطة عن هذا الشعب كما الطائفة الإيزيدية، وغيرهما.

النموذج النسوي

تشكل النماذج النسوية جزءاً من الخطاب بوصفهن ضحايا – فلا جرم أن يكون الإهداء إلى تسع عشرة امرأة تعرض للحرق من قبل «داعش» ـ ما يفسر رجحان كفة تلك الشخصيات النسوية على غيرها من الشخصيات الذكورية، التي تكاد تتصل بشخصيتين هما سامح وهاني، بالتوازي مع صورة الأب عامة، لكنها بدت جزءاً من أداوت التأثيث لمشهدية التشكيلين: السردي والدلالي إلى حد ما، وهنا يبدو النص متمحوراً حول هذا الحضور الأنثوي (عهد- ميرال – إزداي- ليلاف..) وتلك الهموم الخاصة بهذه الذوات، فتظهر إشارات بدت لي على قدر كبير من الحساسية في تعرية بعض المواقع في الوعي المسكوت عنه، ومن ذلك قراءة الجسد في وعي بعض الجماعات الدينية، وهنا يبدو أن محاولة تشويه الجسد يعدّ جزءاً من مقاومة هذا الاستلاب، وهو نهج متعارف عليه في الدراسات النفسية بداعي الصدمة، ويبدو أن الجسد قد شكل جزءاً من تمكين هذا الاستناد الدلالي، وأطيافه، وإن بدت في بعض الأحيان قابلة للتحقق بشكل أعمق لو تخفف النص من الانشغال ببعض المشهدية الوصفية التي بدت فائضة في بعض المواقع.

ومن النماذج المتصلة بالتشوهات ثنائية تحييد الوجود الأنثوي، ومحاولة استبداله بآخر ذكوري، ولاسيما من لدن الأب (والد عهد) الذي كان يتمنى أن يرزق بولد؛ فقام بوضع هرمونات ذكورية في طعام الابنة، ما سلبها جزءاً من هويتها الأنثوية، فأفرز تشوهاً مادياً ونفسياً ما جعلها في حالة توتر مع حضورها ورؤيتها لذاتها، وهنا نرى مبررات الاشتهاء المثلي ـ من قبل إحدى الصديقات – ليكون جزءاً من نواتج هذا التشوه، وهكذا يبدو أن الرواية بدت في تكتلاتها قائمة على محاولة أن تتعمق في كل ما يمكن أن يبدو نافراً عن الحدود، أو عن التكوين الطبيعي، فلا جرم أن تحتشد الرواية في هذه الصياغات للذات الإنسانية، التي تبدو الصوت الأكثر حضوراً في النص.

لا يمكن أن ننكر قدرات النص على التلفت للمعرفة التي تضفي على الرواية جزءاً من صيغة وثائقية، ولاسيما ذكر الأماكن، والسجون، والمعسكرات، وغير ذلك مما يشي بتتبع عميق، وبحث سردي أفرز نصاً يحتكم لمصداقية سردية باعثة على التقدير، كونها لا ترتهن لاستيهامات الكتابة العبثية أو المجانية، إنما هي تنطلق من تخطيط فاعل ومدروس، وهنا تبقى جدلية الرؤية التي يمكن أن تُلمح عبر حساسية الفكرة، وعمقها، إذ ينبغي لها أن تتجاوز فعل المشهدية، والإشارة وفائض التعليق عبر التركيز على بيان حجم الألم، وأثره في الذات، ما يقودنا إلى التصريح بأن وعي الإدراك قد بات أثقل مما يحتمل، فتسعى «عهد» إلى استشارة طبيب نفسي بغية تجاوز أزمة الذاكرة، بالتجاور مع أسئلة تتصل بنبذ معنى الوطن، كما فكرة الجسد، ومقاومة الاختزان الصوري، كل هذا يأتي في مجال من المتخيل الذي يسعى لأن يقيم حدوداً لمعضلات الذات في هذا العالم، وكأن الرواية ترغب في أن تستأثر بعكس أكبر قدر من التشوهات.

التواطؤ المؤسساتي

لعل هذه الرغبة في تمكين هذا القلق في سردية غصون، قد أجج كتلة من الإحالات التي ترى ترغب في أن تختزن انهيار المنظومة القيمة والأخلاقية في زمننا هذا، ولهذا يذهب السرد شرقاً وغرباً.. شمالا وجنوباً: ألم سوري، وكردي، وإيزيدي، وليبي، وعراقي، بالإضافة إلى حقوق الإنسان في السعودية، ومعضلة الفلسطيني التاريخية، كما أفغانستان، وغيرها الكثير، فتثقل النص، ويتشعب، غير أنه يبقى مرتهنا بمزاج يبدو منسجماً مع المقصدية العامة للرواية.

وختاماً، فإن المقصدية الكبرى تتجلى مبدئياً من دلالة العنوان التي تنهض على بيان المفارقة بين الادعاء القيمي لأفكار أو أيديولوجيات تدعي ظاهرياً شعارات قيمية وأخلاقية وحقوقية ودينية، وغيرها، لكنها على مستوى الممارسة، والنهج تتهاوى هذه الادعاءات التي تبدو على النقيض من ذلك؛ إذ تتحول إلى جزء من آلة إنتاج الألم ما يبرر نقد الرواية لأفكار الجماعات الدينية الإرهابية «داعش» بيد أن هذا لا يستقيم دون التعريض بالنظم السلطوية والديكتاتورية، ومنظومة الهرمية الذكورية، وهذا لا ينتهي بالإشارة إلى فساد المؤسسات الدولية الحقوقية، ومن ذلك التستر على انتهاكات بعض الدول، أو الجرائم التي ارتكبها موظفوها، ومن ذلك اغتصاب الأطفال، وغير ذلك، وهكذا يرتهن العمل بكليته إلى هذه الرؤية لثيمة التيه التي تبدو من أنضج الأفكار على مستوى الرواية التي ظهرت موفقة في تمكين السرد من تعرية الكثير من الطبقات العميقة لخطابات تمارس التضليل، لنخلص إلى أن الظاهرة الأخلاقية ليست سوى طبقة رقيقة، تحجب خلفها قدراً هائلاً من القبح، والبراغماتية، ما يقودنا إلى نموذج سردي يحتفي بسوداوية واضحة، لكن الأهم الاتصال بمحاولة الدفاع عن الذوات التي أرهقها هذا الجنون، الذي يكمن في كل ما يحيط بنا.

كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي