أزمة الخطاب النقدي الحداثي العربي: نقاش جديد على جدل قديم

2021-11-26

عبد العزيز حمودة

 مصطفى عطية جمعة

هل انتهت حقبة الحداثة العربية نقدا وإبداعا؟ ذلك هو السؤال الذي نسعى إلى الإجابة عنه في هذا المقال. ونفترض ابتداء أنها ليست موضة ملابس كي تنتهي بصعود موضة أخرى، وإنما هي أفكار تتشعب وتنتشر، تؤمن بها العقول، وتتشربها النفوس، وتظل ثابتة إن لم تتم مراجعتها، فهي طرائق للتفكير والنظر، وأساليب في الكتابة دأبت عليها مواهب إبداعية، بعدما اعتادت عليها في كتاباتها إلى يومنا.

ومن هنا، فإننا لا نحيي خطابا قد أُميت، بل نناقش خطابا لا تزال له أصداء، قلّت كانت أو كثرت، لكنها في الحقيقة موجودة، منها ما هو متوارٍ خلف قناعات نراها في نوعية الحكم على النصوص، ومجادلة المبدعين التي ينتهجها العديد من النقاد، ومنها أيضا ما نجده في نصوص المبدعين أنفسهم، الذين عاصروا حقبة الحداثة الأدبية العربية في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهضموا أفكارها، ورددوا مقولاتها، وللأسف لم يقرأوا المراجعات النقدية التي عارضتها، وإن قرأوها فإنهم آثروا ـ في غالبيتهم ـ السير في ما بدأوا به مسيرتهم الإبداعية، فقد عرفوا طرائق إبداعية وخبروها، وهم غير مستعدين للتغيير، الذي قد يأتي بما لا يشتهون.

نقول ذلك، وقد ناقشنا عددا من المبدعين العرب، الذين ظلوا يكتبون في خريف أعمارهم، بما استهلوا به في شبابهم؛ على قناعة تامة بأنهم كانوا على حق في ما عرفوه وفي آمنوا به في حياتهم الإبداعية؛ فمن العيب ـ إذن في نظرهم- الكفر به في نهاية حياتهم الإبداعية. والأمر كذلك مع النقاد، الذين ظلوا يقيسون النصوص الجديدة بالقناعات الحداثية القديمة نفسها، فيجلدون ظهور الأدباء بسياطهم، غير واعين أن المقولات الحداثية – التي تغنّوا دوما بأنها تطورية – باتت جامدة، إن لم تكن معيقة للنماء الإبداعي، غير مستعدين لتطوير ما آمنوا به يوما أو مراجعته.

عندما نطلق مصطلح «الخطاب النقدي الحداثي» فإننا نعني به تلك الدراسات النقدية والنقاشات التي واكبت صعود تيار الحداثة في الأدب العربي، والتي بدأت في الربع الأخير من القرن العشرين، واستمرت إلى نهاية القرن، قبل أن يأتي جيل آخر من النقاد، سعى إلى الاستفادة من المراجعات والتقييمات لمرحلة الحداثة النقدية العربية، واكبه جيل آخر من المبدعين العرب، الذين قدموا رؤى وإبداعات مغايرة لما قدّمه الحداثيون المبدعون العرب، متداركين المآخذ على أدب الحداثة وفنونه.

لا تزال هناك دراسات وكتابات تمتاح من التراكم النقدي الحداثي العربي، وتتوسل به على مستوى المقولات والمفاهيم في الدرس النقدي، بل تستخدم لغة الخطاب نفسه، بكل ملامحها التي كانت مثارا لجدل كبير، بسبب الغموض والإلغاز في الاصطلاح والمنهجية والتناولات، وهي الملامح التي أفاض فيها عبد العزيز حمودة في مراجعته ونقده للحداثة العربية في كتابيه «المرايا المحدبة» و«المرايا المقعرة» ذاكرا في الكتاب الأول أن هناك نسخة عربية مغايرة للحداثة الغربية، على مستوى الطرح والمفاهيم والأسلوب ذاته، مشددا على أن أبرز ما يلاحظ على النسخة العربية الغموض في لغة الخطاب، على مستوى الطروحات والكتابات، متسقة مع انهيار الحلم القومي العربي بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 وفقدانها الثقة في الماضي الثقافي، فلم تجد أمامها إلا التشبث بالمذاهب الأدبية الوافدة من الغرب، على أمل أن تكون عونا في تدمير الإرث الثقافي التقليدي، وإعادة إنتاجه وفقا لرؤى جديدة، تمتاح من مذاهب الحداثة الغربية، فكانت المحصلة أن اقتصر هذا التيار وانحصر على من تبنّاه من النخب العربية، في ما يسمّى حداثة النخبة، التي تخالف الدارج عند الجماهير والأدباء السابقين.

كانت المعركة في ظاهرها رفضا للحداثة الغربية وممثليها من الحداثيين العرب، لكن باطنها كان محاولة لاستعادة الهوية العربية، أمام خطاب تغريبي في مرجعيته ومصادره، مارس استعلاء فكريا على الذات الثقافية العربية الراهنة، وتمترس وراء مقولات الحداثة، بما تحمله من عصرنة وتقدم، أمام واقع عربي مزرٍ متأخر.

لقد كان الجهد الأساسي لعبد العزيز حمودة منصبا على المقارنة بين الحداثة العربية والحداثة الغربية، ساعيا إلى النظر في مسببات الحداثة الغربية، وأنها معبرة عن أزمة الإنسان الغربي، مع العلم والدين والحروب الإفنائية المدمرة (الحربين العالميتين الأولى والثانية) وثورة الشك التي انتابت العقلية الغربية في القيم عامة. وكان من نتاجات هذه المقارنة؛ رفضه لمنهجيات الحداثة الغربية، لأنها في رأيه غير معبرة عن الذات الثقافية العربية، وسعى حمودة، في كتابه الثاني «المرايا المقعرة» إلى تأسيس منهجية نقدية عربية، تستند إلى التراث البلاغي واللغوي، رافضا تبني المنهجيات النقدية الحداثية، حيث يشير حمودة إلى أنه عاد إلى (الماضي) التراث العربي، بحثا في الموروث البلاغي واللغوي، عما يمكن استلهامه في تأسيس مناهج نقدية معاصرة ترتكز على التراث العربي القديم، لإنتاج النظرية اللغوية العربية والنظرية الأدبية العربية؛ في محاولة منه إلى استعادة هوية معرفية مفقودة، أمام طغيان الهجمة الحداثية الوافدة، والتي نظرت باستعلاء إلى الواقع والتراث العربيين، وتأسست مرجعيتها الفكرية على الفلسفات الغربية والمذهبيات المنبثقة منه.

ونرى أن ملاحظات حمودة عن إشكاليات الخطاب الحداثي العربي هي صحيحة وقائمة، فالخطاب النقدي على مستوييه التنظيري والتطبيقي؛ كان غامضا، ملغزا، حافلا بالمصطلحات الغامضة في بنيتها، والمختلف على دلالاتها، مع كثرة التفلسف، وتطعيم هذا الخطاب بالنعوت والإضافات والمصادر الصناعية، التي جعلته قريبا من الخطاب الفلسفي، ما أبعد القارئ عن النقد والإبداع معا، وتلك الطامة الكبرى، لأن من مهام الناقد أنه وسيط بين النص والقارئ، مثلما أنه كاشف عن جماليات ودلالات وأبعاد في النص قد لا ينتبه إليها المبدع ذاته، وكذلك القارئ بالتبعية على اختلاف درجاته ومستويات تلقيه وذائقته.

لقد كانت المعركة في ظاهرها رفضا للحداثة الغربية وممثليها من الحداثيين العرب، لكن باطنها كان محاولة لاستعادة الهوية العربية، أمام خطاب تغريبي في مرجعيته ومصادره، مارس استعلاء فكريا على الذات الثقافية العربية الراهنة، وتمترس وراء مقولات الحداثة، بما تحمله من عصرنة وتقدم، أمام واقع عربي مزرٍ متأخر. واشتدت المعركة مع ما أفرزته الآداب الحداثية العربية: شعرا وقصا وفنونا من نصوص غامضة، أبعدت المتلقي العربي عنها، مع اتهامات باللوغاريتمية تسابقها، وردّ المبدعون الحداثيون بحجج على شاكلة، أن الكتابة للنخبة وليس العامة، وأنهم يكتبون للأجيال القادمة التي ستفهم نصوصهم، لأن الذائقة العربية الحالية غير واعية ولا هاضمة لها، علما بأن لكل جيل مبدعيه، ولا يمكن الكتابة لجيل مستقبلي، وإهمال الكتابة لجيل حالي معاصر للمبدع، وهكذا تشعب الصراع وتعددت أبعاده.

أكاديمي مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي