الرمز والتأويل في «الغابة اللامرئية» للمغربي أحمد زنيبر

2021-11-24

عز الدين المعتصم

يتقوى الخطاب الأدبي عبر فعل القراءة التي ينبغي أن تكون في مستوى التجربة الإبداعية برمتها، أي في مستوى رغبتها المفارقة والمتوترة. وإن من شأن قراءة متأنية للمنجز النقدي «الغابة اللامرئية، قراءات في القصة العربية المعاصرة» أن تجعلنا نخرج بفكرة مفادها السعي الحثيث لدى الناقد أحمد زنيبر لاعتماد منهجية محكمة في مقاربة النصوص القصصية، انطلاقا من العتبات النصية مرورا بالموضوعات، وصولا إلى التقنيات الفنية المتمثلة في السرد والوصف والحوار لرصد صور الواقع والكشف عن تفاصيل اليومي والهامشي، فضلا عن توظيف اللغة الرمزية التي تخلق توليفات لغوية تتسم بالخرق والانزياح.

جمالية اللغة الرمزية

يشير الباحث أحمد زنيبر إلى أن معظم النصوص القصصية التي قاربها تزخر بطاقة حافلة بالحياة والحركة والإيقاع والإيحاء، تستمد قوتها من كونها تتجاوز العادي المألوف، لتستبق الزمن المباشر بكثافتها الرؤيوية وأبعادها الجديدة. وهذا ما يتجلى بوضوح في قوله الناجم عن ملامسة قصص «أكواريوم» لعبد الحميد الغرباوي: يقول الباحث: «فثمة إيقاع سردي سريع تتوإلى صوره بشكل مخالف، يعتمد الإيحاء في الصورة والتلميح في اللغة والعبارة، ما يسمح للقارئ بتخيل الآتي وفق المتوالية القصصية المقترحة».

والمبدع الحاذق هو الذي يتقن أساليب اللغة الإيحائية، بهدف تبليغ رسالته إلى المتلقي، لأن جدلية الإنتاج والتلقي أضحت تشكل اختيارا منهجيا إجرائيا وفعَّالا، يستخلص صور الممارسة الإبداعية، انطلاقا من قطبها الجمالي المتمثل في التأثير الذي تحدثه في المتلقي، وتجعله يصدر حكما معينا على قيمتها الفنية، بما يساعد على معرفة القيمة الجمالية للقصص التي تعد مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح إبداعي يطمح إلى التميز والتفرد. كما هو الشأن بالنسبة إلى نصوص المجموعة القصصية «الشركة المغربية لنقل الأموات» للقاص أنيس الرافعي. ينفتح عنوان المجموعة القصصية على إمكانيات هائلة للتأويل، وتعد ثيمة الموت الخيط الناظم لها، في استدعاء ذكي لأقوال الأدباء والباحثين، منها قول «الكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين: «قلت لنفسي، إنني سأموت هذا المساء، فوجدتني أقف وسط حقل من الضوء، ثم رأيت عند قدمي ما يشبه الجثة، كانت ولا ريب، جثتي». ولهذا خليق بالقارئ أن يكتشف السرّ المكنون الذي يشتمل عليه النص، كي لا تضيع لذة الاكتشاف، إذ «الألفاظ في الأصل صور ضئيلة جدا للمعاني، والمعاني أيضا صور ضئيلة جدا للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك».

ولعل هذا ما أسهم في التباعد بين الرؤيا في بعدها العميق، والعبارة بما تتسم به من عجز وقصور، ولهذا نجد الباحث أحمد زنيبر يستحضر مفهوما عاما لإحدى القاصات المغربيات هي ربيعة ريحان، حين وصفت الكتابة بكونها «الورطة الجميلة التي ليس من السهل التخلي عنها، لأنها شهوة وكشف وحلم ورغبة». وهذه الورطة الجميلة لا يمكن التخلص منها، إلا بوساطة التأويل الذي يعد نشاطا معرفيا خلاقا يرتفع باللغة من كونها مجرد علامات اجتماعية، إلى كونها رموزا، والرمز أكثر تعقيدا وكثافة من العلامة أو الدليل، ولذلك يمثل التأويل موقفا معرفيا يفسر في حدود نظرية المعرفة، لكنه نمط من أنماط حضور الإنسان داخل العالم، إنه لا يطرح مسألة المعرفة، وإنما يفتح المجال أمام ما يسمى بأنطولوجيا الفهم؛ أي ربط المعرفة الإنسانية بمجال الوجود بصفة عامة، ومواقف الإنسان الموجودة داخل المجال الوجودي.

وإذا كانت الصورة الشعرية في النص الأدبي تقدم شهادة على روح تكشف عالمها، فإن الكاتب شريف عابدين، من منظور الباحث أحمد زنيبر، استطاع بوساطة مجموعته القصصية «أحمر شفاه» أن يكتشف عالم المرأة وفضاءها الأنثوي، بكل دلالاته وإيحاءاته المتعددة.

يتّضح أن الكتابة القصصية، حسب الباحث أحمد زنيبر، متعددة المداخل والرؤى، وقابلة لتعدد القراءات والمقاربات، فهي مرتبطة تارة بالرغبة في إثبات الذات والوجود، وتارة بالتفاعل مع الآخر والأشياء، وتارة أخرى متصلة بالشهوة والحلم. وهذا الحلم الذي تلّح عليه الكاتبة سعاد الناصر في مجموعتها القصصية الموسومة بـ«في معراج الشوق أرتقي» هو الحلم الذي قال عنه غاستون باشلار: «إن الحلم يضعنا في حالة الروح، هكذا في دراستنا البسيطة لأبسط الصور، يكون طموحنا الفلسفي كبيرا، إنه إثبات أن الحلم يمنحنا عالم الروح، وأن الصورة الشعرية تقدم شهادة على روح تكشف عالمها، العالم الذي كانت تريد العيشَ فيه».

وإذا كانت الصورة الشعرية في النص الأدبي تقدم شهادة على روح تكشف عالمها، فإن الكاتب شريف عابدين، من منظور الباحث أحمد زنيبر، استطاع بوساطة مجموعته القصصية «أحمر شفاه» أن يكتشف عالم المرأة وفضاءها الأنثوي، بكل دلالاته وإيحاءاته المتعددة. تمثل مظاهر الزينة والتجمل والرغبة وحب الحياة وجهها الظاهر؛ في حين تمثل دلالات التبرج والزيف والمكر والتستر وجهها الخفي. وهذا الوجه الخفي هو الرمز الأنثوي الذي اقتضى من الباحث أحمد زنيبر كدّ العقل وإعمال الفكر، بهدف فك طلاسمه وحل شيفراته؛ إذ تعد المرأة خمرة الإبداع ورحيقه، يرتشفه المبدع فتأخذه نشوة، بل خطفة عقلية وما ينتبه منها إلا وفي فمه لحن سماوي، يتذوقه القارئ. وقلّ أن ترى أدبا رفيعا مجردا عن ذكرها، ففيه من روحها حلاوة، ومن دلالها نغمة، ومن غنجها رقة، ومن فتور عينها هيمنة. وفي العمل الإبداعي نجد المرأة تتغير من وضعية إلى أخرى من حيث الميول والتطلعات والانفتاح على آفاق متباينة. وفي هذا السياق تحضر سعاد الناصر بوصفها من الأصوات النسائية المغربية، التي انتصرت لفعل الكتابة، سواء في مجال البحث والتحقيق والدراسة أو في مجال الإبداع.

ومن هنا نستخلص أن قراءات أحمد زنيبر في النصوص القصصية، المغربية والمشرقية، تطرح مفهوما معينا للإبداع، استنادا إلى رؤيا تثاقفية أسهمت فيها عدة عوامل، فرضتها ساحة الكتابة العالمية، لعل أبرزها التمرد على الواقعية النمطية ومحاولة الرجوع إلى عوالم الفن الذي يستجيب لبُعد اللانهاية ليحقق فكرة الإبداع، الذي هو تعارض وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات إلى واقع غير متحقق. ومن ثمة، فإن الباحث أحمد زنيبر استطاع من خلال منجزه النقدي «الغابة اللامرئية؛ قراءات في القصة العربية المعاصرة» أن يتفاعل ويتجاوب مع موضوعات متباينة تضمنتها القصص المغربية والمشرقية للعديد من المبدعين، فراح يتغلغل في ثناياها ويسبر أغوارها، ليصل إلى ما يحب من جمال وجلال وتفرد. وإجمالا نستطيع القول إن القصة العربية المعاصرة قابلة أن تجد في المتلقي من الانجذاب والتفاعل، ما تجده الأنماط الأدبية الأخرى، لكن على قدر ارتباطها بالقيم الجمالية المواكبة لتطورات العصر وتغيراته، وعلى قدر ما فيها من شفافية الرؤية وصدق الموقف، وارتباط حميم بواقع التجربة، وما فيها من عفوية ودفء الخطاب وحيوية الرمز، وجمالية الصورة واستقلالية الروح وانعتاق من فلسفة العقل وتحكمه.

كاتب من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي