الأبعاد الثقافية في رواية «الزنجية» للجزائرية عائشة بنور

2021-11-17

عبدالحفيظ بن جلولي

ما زالت الرواية تلعب الدور الأساس في التعبير عن العلاقات الإنسانية باعتبارها السرد الذي تحتمل مستوياته اللغوية نقل الحكاية الإنسانية تخييليا لتَحَقُق شرط الحلم المشترك بين الواقع والخيال، ومن هذه الناحية تقدم رواية «الزنجية» للروائية الجزائرية عائشة بنور ذلك التداخل بين خطي الفن والواقع حسبانهما عتبتين متعلقتين بما هو ثقافي في تشكلاته الإنسانية المعبرة عن الذات في أشد حالاتها المرتبطة بالكينونة والمصير.

«الزنجية» أو المؤشر الدلالي الافريقي

يختزن العنوان «الزنجية» عمقا دلاليا تتوزعه العناصر الإثنية والثقافية والجغرافية، فهو يقدم حالة بشرية تتموقع تاريخيا ضمن الفضاء الأسود، المحدد بالمؤشر الافريقي، الذي يغلب عليه الملمح الزنجي، أي ذلك الوضع الذي يختزن عمقا تاريخيا مأساويا من حيث كينونته موضوعا للعبودية التي مارسها عليه العنصر الأبيض، ومن ثم تتكرس دلالة التحرر كمعيار للافريقانية، والعنوان «الزنجية» بتأسيسه مفردا، يعكس واقعا متطلعا للظهور والإصرار على التميز في الوجودية، وهو ما يبدو جليا في حركة الفاعل السردي «بلانكا» الشخصية المحورية في الرواية، التي تعبر فضاء السرد متسلحة بأشعار سنغور: «لأنك سوداء.. أنت جميلة» فالجمالية ليست كامنة في اللون بقدر ما هي متفجرة في العمق التاريخي الكامن في الذات الافريقية، العاشقة لحركة الجسد، كتعبير عن تكسير القيد، وتحرر الأنا من هيمنة عنصرية لا تعرف معنى الحقيقة «الزنجية» الواقعة ضمن فسيفساء الثقافة العالمية، باعتبارها مشاركا في التعدد والتنوع، الذي لا يمكن أن تقصى فيه الإثنيات المختلفة، التي تدخل ضمن النسيج الإنساني الضروري، للتعبير عن الفعالية الثقافية، أو عن الحالة الإنسانية كمستوى من مستويات الحياة. لا تقف توهجات «الزنجية» كعنوان يتمتع بطيفية حدثية تعكس التاريخ والجغرافيا كمكونين ثقافيين بالدرجة الأولى، فافريقيا موطن الزنجية الأول، يتلألأ فيه تاريخ السود، كحركة تشكل أساس التاريخ، ومعطى من معطيات التحرر في الوعي الافريقي المحاذي للذات الافريقية في نضالها ضد العنصرية، وهو ما أضافه البعد الشخوصي في الرواية عندما أطلق على «الزنجية» اسم «بلانكا» أي الأبيض بالإسبانية.

الإسمية الشخوصية والظاهرة الافريقانية

لا يمكن أن نغفل الإسمية الشخوصية في رواية «الزنجية» لأنها تمنح القارئ الأفق الذي يفكر فيه داخل النص، ليصل إلى خارجه معتدا بفصول الحكاية الإنسانية في مراحل تطور الظاهرة الافريقانية باعتبارها موضوعا للألم الإنساني في مساراته الوجودية، فالاسم من هذه الناحية بالنسبة للذات المقهورة لا يشكل فقط التعيين الكينوني، الذي يحفظ للشخصية تحديداتها الإدارية داخل مجتمع ما، لكن الاسم في هذه الحالة يعتبر واقعا يتحدد من خلال تاريخ من المأساة التي تحاول السردية فهم تجلياتها في العالم، فالزنجية بتموضعها الإسمي داخل نسيج السرد «بلانكا» إنما تمثل العلاقة بين الجسد الأسود الخاضع والتواق للتحرر الكامن في الوعي بالواقع المرير، الذي يتأسس جوهريا عند حافة الاضطهاد.

تكشف «الزنجية» بتسميتها «بلانكا» عن مستويات متعددة، منها ما يمكن تفسيره على إنه إشارة من الساردة، لتسليط الضوء على بؤرة الفاعل السردي باعتباره الشخصية الرئيسية، وعدم إغفال أي مفردة عاملية، قد تكشف عن وضع يساهم ويساعد في قراءة مسار التاريخ البائس للزنجي، أو الافريقانية المظلومة، فيصبح الاسم «بلانكا» تعبيرا عن الصراع في عمق الشخصية الزنجية، بين ذات خاضعة وأخرى متسلطة. يمكن أيضا أن يقرأ الاسم «بلانكا» من حيث كونه التلبس اللاواعي الذي انغرس في وعي الزنجي، باعتبار التفوق العرقي للأبيض، من حيث التمظهرات السلوكية والإنتاجية في واقع أهم ما يميزه الانتظام الوجودي في مسار «التطور» وبالتالي، يصبح الأبيض/بلانكا تعبيرا عن الوعي الخفي بالخضوع الذي لا فكاك منه سوى بتقمصه فيتحقق المغزى من فكرة فرانتز فانون «جلد أسود أقنعة بيضاء».

يمكن أن يكون الاسم «بلانكا» تأثيثا للمسار السردي الوجودي، أو التعبير الأمثل عن «السردية الصغرى» بتعبير فرانسوا ليوتار، للإحالة إلى إشكاليات التمييز العنصري والتخلف وصعوبات التنمية، في قارة أهم ما يميزها أنها بؤرة صراع في دوائر «الأقنعة البيضاء» للفوز بالهيمنة، في إطار البحث الاستعماري الدؤوب عن مجالات حيوية، وتلك هي مسافة الكسر العميق في أدغال نفس الزنجي، الذي يتأسس موضوعا للهيمنة، فالزنجية/بلانكا تمثل عمق الوعي بالظلم القائم واقعيا على «الجلد الأسود» في بعده الافريقاني.

العراء الافريقي واختلال فعالية التواصل

ينفصل السرد عن مكونه الشخوصي الأساس الزنجي، ويتعالق في مسار منفرد بـ«هاجر» الشخصية التي تمثل مكان «المهجر» والتي تتعين في عوامل الحكاية باعتبارها صحافية، تلتقي «فريكي» صديق «بلانكا» وزوجها في ما بعد. تعبر وضعية اللقاء عن الحالة العامة للمهاجر الافريقي داخل القارة الافريقية، فـ«هاجر» جزائرية وتقاطع مسارها السردي بـ«فريكي» كان ذات صباح مكثف برجف الجسد والإقامة في العراء، وهو الوضع الذي يمثله المدخل للرواية أو جملة البداية: «عمري خمس عشرة سنة. ليبدأ كل شيء من هنا… هنا الطبيعة قاسية». تمثل البداية منذ الطفولة شراسة البؤس المستبد بالافريقي في جميع حالاته، ثم هناك الطبيعة القاسية التي تكشف عن وضع مزدوج، تأثير الطبيعة وانهيار مستوى العلاقة معها بالنسبة للكائن الحيوي، وهذه العناصر تعتبر طاردة بالنسبة للإنسان، حيث يتعلق باللجوء كحل نهائي لمشكلة البؤس والفقر، فالصحافية «هاجر» تمثل الملاذ الذي يتحقق فيه حلم المهاجر الزنجي. في تلك الصبيحة التي تلتقي فيها «هاجر» بـ«فريكي» يرق قلبها لحاله فتسرع إلى إحضار كأس حليب ساخن وبعض الغطاء، إن فراغ البطن لا يجد معناه سوى في التأخر الاقتصادي الافريقي، الذي يحتاج إلى تكامل إنتاجي يحقق التواصل الفعال بين الكيانات السياسية والاجتماعية الافريقية، وهو ما لا يحدث نتيجة الهوة الكبيرة بين ذات الكيانات، وهو ما تفجره الرواية في جملة النهاية: «ثم تركت المكان لحراسه ومشيت» بطبيعة الحال «هاجر» لم تترك بلدها، و«فريكي» ما زال يعيش مأساة الهجرة وعدم توفر المأوى وسداد الرمق، لكن «هاجر» «تركت المكان» بعد لقائها الأخير مع «فريكي» الذي كان يتعقبها وتعرفت عليه، افتراق مسارات الشخصيتين يقدم الدلالة الظاهرة على افتراق مسارات الكيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فدلالة الإسم «فريكي» تحيل إلى افريقيا والدلالة الكامنة في «هاجر» تحيل إلى مكان الهجرة (الجزائر) وتركها المكان لا يكشف سوى عن عدم القدرة على التواصل الفعال بين شعوب افريقيا، وهو ما يؤسس للقابلية للهجرة وعدم الاستقرار في عموم الجغرافيا الافريقية، بما في ذلك مكان المهجر.

عود على بدء

تحفر الرواية رغم بساطتها عميقا في الأوردة الثقافية الجامعة لبعض العناصر التي تقدم العلاقات المميزة للوضع الافريقي في وضعه المتأزم. «لم تلعب الرياح بخصلات شعري الفاحم المتجعد» تختزن هذه الجملة بعدا جماليا أنثويا «خصلات شعري» وملمحا طبيعيا قاسيا (الرياح) والشعر المجعد لا يتهفهف في الهبوب المحرك لسكون الأشياء، والمعنى يحيل إلى أملٍ منتظر في قوةٍ ما تحرك ركود الوضع الاجتماعي للافريقي، الذي أصبح مطاردا بعناصر طبيعية قاسية أنتجت وضعا مجتمعيا مأساويا، وفقدان الأمل أنتج يأسا في تصور حياة خارج حيز البؤس الذي تعيشه الجماعة الاجتماعية الافريقية: «وهل هناك حياة أخرى خارج منطقتنا هذه؟» هذا السؤال من أم بلانكا لا يكشف سوى عن التراكم السلبي واليائس الذي شكل مستويات الوعي المتوائم مع الوضع القائم، حيث لا يتبقى سوى «الجسد» باعتباراته القابلة للحركة في ذاته وداخل الحيز، وهو ما تثيره مقولة الكاتبة الزنجية الأمريكية بيرل بريمياس: «الرقص عند الافريقي هو حياته» فحركة الجسد الإيقاعية تمثل المعادل الموضوعي والنفسي لانسداد أفق الحركة أمامه، وهو ما يجعل «الافريقانية» وضعا ثقافيا يقدم مجموعة من العناصر المتعلقة بالكيان الافريقي كخصوصية تحتاج عناصرها الذاتية للقيام بمهماتها الوجودية انطلاقا من واقعها المختلف تماما عن أي وضع آخر تولده ظروف حياتية ذات خصوصية أيضا، ولهذا تُعتبر الهجرة والحركة في المكان غير منتجة، لأنها لا تتم وفق منظورات الوضع الثقافي الافريقي المنتج للافريقانية في أفقها الخصوصي.

كاتب من الجزائر







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي