أمير العمري يتتبع موجة سينما المؤلف التي استبعدت الكاتب.

سينما المؤلف ظاهرة فنية انطلقت من فرنسا لتغزو بقية العالم

2021-11-10

المخرج أصبح محور الإنتاج السينمائي (فيلم "إسكندرية كمان وكمان")محمد الحمامصي *


لم يعد المخرج السينمائي مجرد مدير يختار طاقم العمل من فنانين وفنيين والمونتاج والأماكن والديكورات، وإنما صار أيضا مؤلفا خالقا انطلاقا من القصة المستوحى منها العمل والسيناريو والحوار، مرورا باللقطات والمشاهد وحركات الكاميرا والعدسات، وانتهاء بالمونتاج، فهو بالنهاية المؤلف المسؤول عن كافة هذه العناصر السينمائية التي تخلق جسد الفيلم وتنفخ فيه روحه، مثله مثل كاتب القصة والرواية.

وهذا الكتاب للناقد السينمائي أمير العمري “عالم سينما المؤلف” يكشف رؤى وأفكار وثقافات ما يقرب من 40 مخرجا عالميا يمثلون هذا العالم، من بينهم إنجمار برجمان وتيرنس ديفيز وبرناردو برتولوتشي والأخوان كوين وماركو بيللوكيو وتيرنس ماليك وجون بورمان ودوسان ماكافييف ولوتشينو فيسكونتي، حيث يسلط الضوء على أساليبهم السينمائية في التعامل مع الفيلم كأداة فنية للتعبير عن موقف من العالم اجتماعيا وفكريا وفلسفيا وسياسيا وأخلاقيا.

سواء انطلقوا من الذاتي وصولا إلى الموضوعي أو من الموضوعي ارتدادا إلى الذاتي فليس من الممكن الفصل بين المستويين -وفقا للعمري- خصوصا أن ما يميز المخرج صاحب الرؤية الفنية أنه عادة ما يكون مشغولا بمحاولة فهم العالم والكشف عنه والتأمل في بعض ألغازه، حتى لو كان ينطلق في بحثه المرهق من طفولته، من علاقته بأسرته، من محيطه الاجتماعي، أو من موقفه الفلسفي.

الموجة الجديدة


ينطلق العمري في كتابه، الصادر عن مؤسسة بتانة للنشر، مستعرضا تاريخ مصطلح “سينما المؤلف” وتطوره وتأثيراته على السينما العالمية والعربية، وخاصة السينما المصرية. يقول إن مصطلح “سينما المؤلف” يعود إلى اثنين من كبار منظري ونقاد السينما الفرنسيين، الأول هو الناقد والمخرج ألكسندر أستروك والثاني هو الناقد والمنظر الشهير أندريه بازان، ففي مارس 1948 نشر الأول مقالا بعنوان “مولد سينما طليعية جديدة ـ الكاميرا قلم” في مجلة “إيكران فرنسيه” (أي الشاشة الفرنسية). هذا المقال سيصبح في ما بعد بمثابة “مانفيستو” حركة “الموجة الجديدة” في السينما الفرنسية التي ستنطلق قبل نهاية الخمسينات، وفيه يقول أستروك إن السينما لغة مثلها مثل الأدب، وإن المخرج السينمائي عندما يخرج فيلمه فإنه يتعامل مع الكاميرا، وهي أداته الأساسية، كما يتعامل الكاتب مع القلم، ويعبر عن أفكاره وهواجسه باستخدام الكاميرا كما يفعل الكاتب أو المؤلف الروائي وهو يكتب روايته بالقلم.

ويتابع “التقط الفكرة الناقد أندريه بازان ليكتب أن الفيلم يجب أن ينسب إلى مخرجه، وأنه إذا كان المخرج هو الذي يسيطر على الجوانب الفنية المختلفة التي تتحكم، في نهاية الأمر، في مكونات الصورة والصوت في الفيلم فلا بد أن يكون المخرج مؤلفا مثله في ذلك مثل الأديب، سواء اشترك في كتابة السيناريو أو لم يشترك”.

ويرى العمري أن فكرة المخرج كمؤلف لأفلامه مثل الكاتب الروائي، وبالتالي اعتباره المسؤول الأول عن محتوى الفيلم صوتيا وبصريا وأنه يعبر من خلال الوسيط السينمائي -أي الفيلم- عن رؤيته للعالم من حوله، سرعان ما لقيت ترحيبا شديدا من جانب نقاد مجلة “كراسات السينما” الشهيرة التي برز دورها كثيرا في الخمسينات، وكانت تضم في ذلك الوقت أسماء لامعة مثل فرنسوا تريفو وجان لوك جودار وكلود شابرول وإريك رومير وجاك ريفيت. وكان أول من اهتم بتطوير هذه الفكرة وإكسابها المزيد من المعاني والتجليات فرنسوا تريفو، وسرعان ما سيصبح معظم نقاد “كراسات السينما” مخرجين مرموقين يسعون لتطبيق أفكارهم بشكل عملي على الأقل في أفلامهم الأولى.

ويوضح الناقد أن تريفو كان يرى أن الأفلام التقليدية بغض النظر عن مستواها الفني سواء أكانت جيدة أم غير جيدة، هي أفلام تفتقر إلى الأصالة في التعبير، أي أنها أفلام ينتجها “مخرج منفذ” ينفذ سيناريوهات كتبها غيره دون أن يضفي عليها من رؤيته، ودون أن يكون حرا في التعامل الفني معها نتيجة سطوة نظام الإنتاج في هوليوود تحديدا وفي السينما التجارية الفرنسية التي كانت سائدة آنذاك بوجه خاص، أو بسبب التكوين الشخصي والثقافي للمخرج الذي يتعلم في معاهد السينما أو في الأستوديوهات خلال عمله كمساعد للإخراج أن المخرج مجرد منفذ، مهمته التنسيق بين مختلف المهن السينمائية لكي يضمن مستوى حرفيا جيدا للسيناريو، وهو يتعاون في ذلك مع طاقم متعدد الأذرع يتكون من المصور والمونتير ومهندس الديكور ومهندس الصوت ومصمم الملابس وغيرهم.

ويشير العمري إلى أن تريفو عبر عن آرائه بحماس وصل إلى حد قوله إن أسوأ أفلام المخرج الفرنسي جان رينوار أفضل من كل أفلام المخرج جان ديلانوي الذي كان فيلمه “السينفونية الرعوية” أول فيلم يحصل على السعفة الذهبية في الدورة الأولى من مهرجان كان 1946، وكان تريفو يقصد أن أفلام ديلانوي تفتقد تلك النزعة الجمالية الأصلية التي تميز أفلام رينوار، وتتميز بتحررها من القوالب التقليدية في السرد والتصوير، وبالأخص الطابع الشخصي أو البصمة المميزة، فقد كان معظمها يستند في تلك الفترة إلى أعمال أدبية.

كشف رؤى وأفكار وثقافات ما يقرب من 40 مخرجا عالميا

وقد شن تريفو هجوما شديدا على الأفلام التي يكتبها كتاب سيناريو يرى أنهم يستخدمون الأصل الأدبي ويحشونه بأفكارهم السياسية الخاصة، كما دافع عن فكرة تصوير روح العمل الأدبي دون الالتزام الحرفي بأحداثه وشخصياته، واعتبر مخرجين مثل رينوار وماكس أوفولس وجاك تاتي وروبير بريسون مخرجين مؤلفين.

كما أعلى كثيرا هو وزميله كلود شابرول من شأن المخرج هيتشكوك واعتبراه نموذجا مثاليا للمخرج المؤلف، رغم أنه لم يكن يكتب أفلامه بنفسه، كما كان يعمل في ظل نظام الإنتاج الأميركي الذي يعتبر المخرج مجرد منفذ وأن المسؤول الأول والأخير عن الشكل النهائي للفيلم هو مدير الأستوديو، أي مدير شركة الإنتاج. لكن هيتشكوك تمكن بفضل ما حققه من نجاح أسطوري من أن يفرض نفوذه على شركات الإنتاج وأن يحصل بالتالي على مساحة كبيرة من الحرية، سواء في اختيار موضوعاته وتطويرها أو طريقة إخراجه لها، أو اختيار ممثليه وطاقمه الفني ثم تجسيد أفكاره سينمائيا.

ويلفت إلى أن الموجة الجديدة استبعدت الكاتب وأعلت كثيرا من شأن المخرج ودوره، ولم يقتصر الأمر على المخرجين أصحاب الأفلام الفنية غير التجارية ضمن هذا التصنيف، بل اتجه نقاد الموجة الجديدة نحو السينما الأهم والأكثر تأثيرا في العالم، أي السينما الأميركية، وبدأوا يدرسون أفلام مخرجين مشهود لهم مثل هوارد هوكس وجون فورد وألفريد هيتشكوك وأورسون ويلز ونيكولاس راي، واعتبروا هؤلاء وغيرهم من كبار مبدعي السينما، أي أنهم ينتمون إلى عالم المخرج المؤلف طالما أنهم يعبرون تعبيرا حرا في أفلامهم عن أفكارهم وهواجسهم، أي عن رؤيتهم للعالم.

ويضيف أن نظرية سينما المؤلف انتشرت خارج حدود فرنسا، ووجدت لها أصداء في بريطانيا وألمانيا والسويد وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، بل واستطاعت أن تعثر لنفسها على مكان راسخ في النقد السينمائي الأميركي أيضا. وقد تبناها في الولايات المتحدة أندرو ساريس أحد أشهر النقاد الأميركيين وأكثرهم تأثيرا، وكتب عنها كثيرا وعن السينما الفرنسية بوجه خاص، بعد أن تحول أصدقاؤه جودار وتريفو وشابرول الذين ارتبط بصداقات معهم خلال إقامته لمدة عام في باريس إلى مخرجين مرموقين غيروا وجه السينما الفرنسية في الستينات.

الرسوخ والانتشار

حول ما واجهته نظرية سينما المؤلف أو المخرج المؤلف من تحديات يقول العمري “لعل من ضمن التحديات التي واجهتها النظرية ما جاء به رولان بارت وجاك دريدا، اللذان أكدا ضرورة الفصل بين المؤلف والنص، فقد اعترضا على تفسير النص الأدبي في ضوء الخلفية السيكولوجية والاجتماعية والإثنية للمؤلف، وكذلك معتقداته السياسية والظروف التاريخية التي حفت بكتابته النص”.

ويضيف “اعتبر بارت ودريدا النص منفصلا عن المؤلف، وأنه يجب تفسيره فقط استنادا إلى ما يحتويه من معان وإشارات ذات دلالات معينة، ومن هنا ظهرت نظرية موت المؤلف التي اهتم بها كثيرا نقاد ما بعد الحداثة، وهي تنكر دور المؤلف وتلغي حضوره في طيات العمل الفني والأدبي، وتقلل من علاقة المؤلف ومعتقداته الخاصة بالنص الأصلي إلى حد الإلغاء، وكلها نظريات يمكن الاستفادة منها دون أن تنفي، بصفة نهائية، قوة ورسوخ سينما المؤلف التي مضت لتترسخ أكثر وتصبح حتى اليوم أساسا لعمل معظم السينمائيين الكبار في تاريخ السينما في الشرق وفي الغرب”.

يعتقد البعض أن سينما المؤلف تضم كل الأفلام التي تخضع لما يسمى بـ”نظام تصنيف الأفلام” أو “نظام الأنواع” في السينما الأميركية، وهو نظام قوي مازال يتمتع بأرضية صلبة، بل وله وجود كبير أيضا خارج السينما الأميركية، في بلدان أخرى كثيرة، لكن سينما المؤلف ليست فقط السينما المتحررة من “النوع”، أي التي تستعصي على التصنيف في أنواع محددة كالكوميدي والدرامي والحربي والتاريخي والرومانسي.. إلخ، بل من الممكن أن يكون الفيلم خاضعا لأي نوع من هذه الأنواع السينمائية، ويكون في الوقت نفسه منتميا إلى مدرسة المخرج المؤلف.

العمري يؤكد أن مدرسة "سينما المؤلف" تركت تأثيرها الكبير على مخرجي السينما المصرية
من الجيل الثالث الذي جاء بعد جيل المؤسسين

ويؤكد العمري أن مدرسة “سينما المؤلف” تركت تأثيرها الكبير على مخرجي السينما المصرية من الجيل الثالث الذي جاء بعد جيل المؤسسين ثم جيل العمالقة الكبار -هنري بركات وصلاح أبوسيف ويوسف شاهين وحسن الإمام وحسام الدين مصطفى وتوفيق صالح- بل إن يوسف شاهين انتقل من السينما التجارية التي تصنع طبقا لتركيبة معينة ومواصفات مسبقة، إلى سينما المؤلف وسينما التعبير الذاتي.

ولعل أبرز مؤلفي السينما في مصر سعيد مرزوق وعلي بدرخان وأشرف فهمي وممدوح شكري، وهم من أبناء الجيل الذي ظهر بعد هزيمة 1967 كجزء من تيار الوعي وحركة الشعر الجديد والأدب الجديد الذي عكس نوعا من التمرد على التقاليد القديمة في أساليب الحكي، واتجه إلى التعبير الذاتي عن تلك الحالة من الانكسار وفي الوقت نفسه رفض الخضوع لقهر السلطة. ثم جاء بعدهم جيل محمد خان ورأفت الميهي وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبدالسيد ويسري نصرالله، وجميعهم تأثروا على نحو ما بنظرية سينما المخرج المؤلف صاحب الرؤية.

ويلفت إلى أن ملامح نظرية المؤلف تبدت بوضوح في الأفلام التي تنتج في بلدان المغرب العربي، بسبب تأثر السينمائيين بالأفلام الفرنسية بحكم دراساتهم السينمائية في فرنسا أو اعتمادهم على الإنتاج المشترك والتمويل الفرنسي.


*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي