
الحسين أيت بها*
صدرت رواية «أتربة على أشجار الصبار» للكاتب المغربي عبد الواحد كفيح عن دار النشر أكورا في طبعتها الأولى في مدينة طنجة المغربية، سنة 2021.
والرواية جهد كبير، كتبت بأسلوب خاص لكاتب تمرس على الكتابة وأجادها منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاض غمار التجريب في الكتابة الروائية كغيره من الروائيين المغاربة أبناء جيله، وساهمت تجربته الطويلة في تأسيس نمط جديد من الكتابة، يندرج ضمن ما يسمى بالتخييل الواقعي، التجريبي الذي يستمد مرجعيته من الحكايات الشعبية المغربية النادرة والاستشهاد بمأثور الكلام من الحكم والأقوال التي تحمل طابعا مغربيا خالصا، ينحدر إلى عمق البادية المغربية، وقدرة فائقة على استبطان المعيشي اليومي لسكان البوادي والأرياف والحواضر المغربية، والإنصات لعمقها وصداها الاجتماعي.
تتشكل الرواية من حكاية واحدة غريبة وعجيبة، لتمتد عبر فصول الرواية، وتتشعب خيوط السرد لتكشف عن المخفي والمضمر في أحداثها ووقائعها، وتتطور بواسطة حبكة محكمة البناء تتوسل كل معاني النضج والاكتمال، وباعتمادها على أسلوب أدبي مدهش وجذاب، تجنح نحو السخرية من واقع مرير.
ويستمد خطاب الحكي في الرواية مشروعيته من واقع مأساوي يسوده العجائبي والغرائبي، حيث سيطرة الزعيم في مملكة الأقوياء، المتسلح بأعراف القبيلة وأسيادها والكنوز المرصودة المحكمة والدجل والشعوذة والخرافة، وأمثال الجهالة من أساطير الأولين.
تتناول الرواية حكاية راع غريب، وافد على دوار أولاد مريم من الفيافي، ليصبح فجأة وبقدر قادر سيد القبيلة الفقيه بوعزة. بحيلته ومكرهه وشعوذته، وفي هذا العالم السحيق من حياة البادية والقرى الهامشية، يميط السارد اللثام عن عوالم غابرة من ذاكرة الهوامش والأرياف، لنماذج بشرية تسعى سعيا حثيثا إلى إخضاع الناس لسلطة الرجل الواحد سيد القبيلة، في سبيل التضحية بفكر الجماعة وسلبها كل ما تملكه، تحت غطاء الدين والأعراف والتقاليد. تسبب في تشريد عائلات الدوار والدواوير الأخرى عن طريق سلبهم كل ما يملكون وطردهم.
من بين ضحاياه أسرة الميلودية التي تعرضت لتهجير قسري ضحية الجهل والخوف وسطوته وظلمه والطاعون الذي حصد الأخضر واليابس، أدى إلى تشردها وضياعها وقلة حيلتها، أثناء مغادرتها دوار أولاد مريم إلى وجهة مجهولة، حيث فكت ارتباطها بالأرض. وقد ابتلعتهم المدينة بصخبها وعوالمها المدهشة، حيث ذابوا في دوامتها، يطاردون لقمة العيش في صبر وأناة وتجلد.
ويستمد خطاب الحكي في الرواية مشروعيته من واقع مأساوي يسوده العجائبي والغرائبي، حيث سيطرة الزعيم في مملكة الأقوياء، المتسلح بأعراف القبيلة وأسيادها والكنوز المرصودة المحكمة والدجل والشعوذة والخرافة، وأمثال الجهالة من أساطير الأولين. |
وفي خضم ذلك سيتأقلم محمد ابن الميلودية مع إيقاع الحياة في المدينة، ويحرر نفسه من الخوف والخنوع والاستكانة، ويرى العالم بطريقة أخرى، أكثر مما رآها في القرية.
وتصبح الميلودية سيدة سوق الجوارب، بعد عملها الدؤوب، فتلقب بـ«الميلودية التقشيرة» وبعزيمتها وصلابة ابنها محمد يتحولان إلى سماسرية أحياء الصفيح، فيغنمان من ذلك أموالا كثيرة، وينخرط محمد في الحياة السياسية لأهل الدائرة، فينجح في الانتخابات بمساعدة من رجل الأعمال الروبيو، وينال مكانة مرموقة في المدينة، ويتسلق أعلى الرتب، ليتخذ له منزلا كبيرا في أحد أفخم الأحياء الراقية، وتقذف بهم الحياة لتذكر قريتهم ودوارهم الذي تركوه مكرهين، ويأخذهم الحنين لزيارته، وعند عودتهم يجدون أن الفقيه الزعيم الذي شردهم قد
لقي حتفه بموته وهلاكه، بطريقة غريبة وعجيبة، برع الكاتب في نسجها وحبكها لتتناسب مع نهاية الرواية، وتتطور الأحداث بشكل غير متوقع ومربك في سرد طويل غير مألوف، ونجد الشرقاوي ابن العائلة المنسل عبر شاحنة والمنشق عن أسرة الميلودية، هو الآخر يعاني هناك في الريف، وبالضبط في دوار الربعي، مع حب وهيام الصالحة زوجة الحاج حمادي ومحاولتها السيطرة عليه، ويكون الفضاء الذي هو مزرعة الحاج حمادي مسرحا لتلك الأحداث، وتنتهي بوفاة الحاج حمادي بعد صراع مع المرض، واستيلاء الشرقاوي على ثروته ومزارعه وأمواله ليصبح سيدا لدوار الربعي.
تتناسل شخوص الرواية في سرد محكم للتعبير عن واقع البادية الأليم، (الفكيكي، ميمونة، الميلودية، محمد، الشرقاوي، الصالحة، الحاج حمادي..) تنهل من المحلي والمعيش في ظل قساوة الطبيعة وشدة الجفاف ووباء الطاعون والظلم والجور. وبسبب البناء الحكائي للنص والتكثيف الذي عرفه السرد، تظهر مواقف الشخصيات لتعبر عن رغباتها الدفينة. رغبة الفقيه في الاستيلاء على أراضي باقي الدواوير، في مقابل رغبات الشخوص الأخرى التي تؤدي دور المعارضة الصامتة، أو الخنوع والتسليم بالقضاء والقدر، والإذعان لسلطة الزعيم بوعزة.
جاء عنوان الرواية «أتربة على أشجار الصبار» مربكا، محملا بالدلالات العميقة التي تزيد أحداث الرواية غموضا، فقد ذكرت أشجار الصبار في مواضع كثيرة في الرواية، فإذا كانت الأتربة هي كل ما علق من درن الأرض على الأشجار من أوساخ لتصبح عرضة للتلاشي والتلف والضياع، فإن الصبار رمز للصمود ومقاومة الجفاف، حيث تصحب هذه النبتة أسرة الميلودية من القرية إلى المدينة، تحاكي واقعها المرير، وتعيدها إلى ذكريات ارتباطها بالأرض «للأرض جذور ممتدة في القلب».
ونرى الجدة ميمونة تعمل في بيع الصبار كوسيلة للبحث عن مورد عيش، ورغم ما لحق هذه الأسرة المسكينة من ضرر كبير، إلا أنها أبلت البلاء الحسن في الصبر والصمود والمقاومة كشجر الصبار، ومعاندة الظروف الصعبة التي عصفت بها، مثال شخصية الميلودية في الرواية.
وتطلع علينا شخصية السارد بين الفينة والأخرى، بين ثنايا الفصول لتوجه مسارات السرد المتشعبة، وتدفع القارئ نحو التسليم بصدق وقائع وأحداث الرواية، ويبدو السارد عالما بخبايا الحكي، تسعفه في ذلك ذاكرته لكتابة التفاصيل الصغيرة والكبيرة، في سرد محكم البناء، حيث نجد خيط الحكاية مشدودا للماضي البعيد، ونبشا في الذكريات الأليمة، وتقليب مواجع الشخصيات، لتعيدها إلى حاضرها البائس، وكما هو معهود في الحكايات
الطويلة، تتمخض حكاية عن شلال من البوح لتفرز حكاية أخرى، في ما يشبه السباق المحموم نحو نهاية أراد لها السارد أن تكون مأساوية غامضة، كما بدأت بحدث غامض تمثل في ظهور الرجل الغريب الداهية، وموته بطريقة غامضة وغريبة وهي حكاية غريبة وعجيبة، تنبثق من بوتقة السرد كقمقم مارد، بل سرداب من الحكايات التي تتهاطل علينا بسبب قوة السرد وجاذبيته، باحثا في ثنايا الذاكرة وزوايا القلب المظلمة ووجدان الخيال عن كل مكيدة شيقة، «حتى يوقع بها القارئ في شرك مكائده السردية الجميلة».