الروائية الأردنية غصون رحّال: الرواية كأداة للمعرفة يمكنها أن تساهم في التغيير الاجتماعي

2021-11-06

غصون رحّال في توقيع لكتابها في معرض الكتاب الدولي في عمان ـ صفحة الروائية على «فيسبوك»

حاورها: نضال القاسم

منذ عام 1999 الذي صدرت فيه روايتها الأولى «موزاييك» لا تزال الكاتبة الأردنية غصون رحّال تعمل على تجربتها، بحثاً وتطويراً ومغامرة، لتتواصل مسيرة أعمالها.. «شتات» 2002 «خطوط تماس» 2006 «في البال» 2010 إضافة إلى عملها الأخير «مَنّ السماء» والصادر في 2020. في الحوار التالي نحاول الاقتراب من عالمها وتجربتها الروائية..

كيف كانت النشأة؟

ولدتُ في الكويت، وقد علمت من أبي أنني أردنية الجنسية لأن والديّ يحملان هذه الجنسية، رغم أنهما فلسطينيا الأصل والتولّد والهوى.

وحين بلغت سن الرشد وصرت مؤهلة للاختيار، قررت ان أخرج من سلسلة الحروب والهزائم المتلاحقة التي عبرت حياتي، أكثر تصميماً وتمسكاً بهويتي العربية وعدالة قضيتي الفلسطينية. عايشت النكسة عام 1967 وكان عمري خمس سنوات، و»انتصار» أكتوبر الجدلي عام 1973 وما تبعة من اتفاقية السلام المسمى (كامب ديفيد) بين مصر والكيان الصهيوني، واجتياح بيروت عام 1982 وحرب الخليج الأولى والثانية، وسقوط بغداد في براثن الاحتلال الأمريكي الغاشم، والحروب المتلاحقة على قطاع غزة.

كل هذه الوقائع والهزائم وما لحقها من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية ساهمت في تشكيل هويتي القومية المنحازة إلى القضايا الإنسانية، بعيداً عن الانتماءات الحزبية والسياسية، وبمعزل عن الأفكار المؤدلجة وتقلّباتها الوخيمة.

كذلك، كان لدراستي للقانون في الجامعة الأردنية، ثم انخراطي في العمل في مجال المحاماة وحقوق الإنسان، مع العديد من المنظمات الإقليمية والدولية دور كبير في فتح أبواب الاستكشاف أمامي لاكتساب الكثير من الخبرات، التي صقلت ميولي الأدبية وأمدتني بمصادر لا تحصى من الحقائق والأحداث والحكايا والشخصيات، التي وظفتها في أعمالي الروائية.

وماذا عن «عمّان» المدينة التي شهدت بواكيرك، كيف ترينها؟

عندما انتقلت أسرتي من الكويت إلى عمّان في عام 1975 كنت في الثالثة عشرة من عمري. عشت مراهقتي في عمان، وفيها حصلت على شهادة الثانوية العامة، وتخرجت في الجامعة الأردنية، ومارست مهنة المحاماة. كانت علاقتي مع هذه المدينة علاقة ملتبسة، لم تكن صديقتي ولم تكن أيضاً عدوتي. أحببت تضاريسها الجبلية الوعرة، وهواءها المنعش النقي، ونسيجها الاجتماعي الملوّن، لكنّي لم أستطع استيعاب التناقضات الفجة بين جناحيها الشرقي والغربي، لم أفهم طابعها العشائري، وسطوتها على كل من يختلف معها.

شهدت نموها وعاصرت التطورات التي لحقت بها والشوائب التي علقت ببساطتها ونقيها، فأفسدت براءتها وأحالتها إلى مدينة أخرى من المدن الصاخبة المزدحمة الجائرة على أبنائها، ما دفعني للكتابة عنها وعن أحوالها في روايتي الأولى «موزاييك «، ومن ثم وصف علاقتي الشائكة بها في رواية «في البال».

روايتك الجديدة «منّ السماء» .. لماذا هذا العنوان، وما هو دلالته؟

«منّ السما» هي روايتي الأخيرة الصادرة عن دار العائدون للنشر عام 2020، ولعنوانها الذي اختارني قبل ان أختاره مداليل جمّة عندي.

أستطيع أن أقول إن العنوان سقط عليّ من السماء أثناء وجودي في مدينة أربيل. كنت في تلك الأثناء قد بدأت في كتابة مسودة الرواية التي رصدتُ فيها معاناة النساء الإيزيديات والجرائم التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد احتلاله لمدينة الموصل عام 2014، وما كنت قد اخترت عنوانا للرواية بعد.

علمت حينها أن (منّ السما) هو الاسم المتداول في إقليم كردستان لحلوى المنّ والسلوى، التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والتي أنزلها الله على أتباع النبي موسى كمكرمة إلهية.

قصدت من خلال هذا العنوان القول، إن العالم قد وصل إلى مرحلة من الفساد والخراب والبؤس، غير قابلة للإصلاح إلا بتدخل إلهي أو مكرمة إلهية، يمدّ لنا الله فيها يد العون لنرى الباطل باطلاً، ونتقي الله في أنفسنا وفي البشرية جمعاء.

تثير «منُّ السماء» لدى القارئ إشكالية العلاقة بين العمل الفنّي والواقع. من أيّ زاوية تنظرين إلى توظيف الواقع في ما يُكتب؟

من وجهة نظري، فإن العمل الروائي يظل عملاً فنياً وإن استقى مادته ومصادره من الواقع، لأن الواقع في العمل الروائي يأتي ممزوجا بالكثير من الخيال والكذب الجميل والشطحات الروائية.

مهمتي كروائية ألا أقوم بسرد الحدث كما وقع بتفاصيله الحقيقية، وإلا كان ما أكتبه تأريخاً لا عملاً فنياً متخيلا. دائماً ما أحرص على إضفاء مسحة من الخيال إلى الحدث فأعيد تدويره وبناءه من جديد. كما أعمد إلى اختلاق عوالم أخرى موازية للعوالم الحقيقية، أدير فيها شخوصي – التي قد تكون مركبة من عدة أشخاص واقعيين- وأنشر الكثير من آرائي وأفكاري من خلالهم. فهذه الرواية أرادت فضح الكثير من الأسرار الخاصة بعوالم «الكبار» أو من سمتهم البطلة «آلهة الأولمب القانطين مقر الأمم المتحدة في نيويورك» وتعرية النظام العالمي الجديد، وما خلقه من دمار في أرجاء هذا الكون بما فيه صناعة المنظمات الإرهابية، ومن ثمّ، ادعاء محاربة الإرهاب لتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية على حساب الشعوب المنكوبة.

وما تأثير كثرة أسفارك على تجربتك الروائية؟ وماذا بين روايتك «منُّ السماء» وسيرتك الذاتية؟

أسفاري إلى الكثير من بلدان العالم وإقامتي في أكثر من بلد أغنت تجربتي الروائية، وأمدتها بكمّ كبير من التفاصيل والخفايا، ما أنعش تقنيات السرد لديّ.

تعرفت من خلال هذه الأسفار على أماكن جديدة وثقافات عديدة والتقيت بأناس عايشوا تجارب لا يستهان بها، تصلح لأن تتحول إلى أعمال روائية.

«منّ السما» ليس فيها من سيرتي الذاتية الكثير، فشخصية بطلة الرواية «عهد» هي شخصية مركبة مني ومن عدة شخصيات من زميلاتي العاملات في مجال حقوق الإنسان، وسيرتها لا تتقاطع مع سيرتي إلا في مناطق محدودة، فهي ابنة مناضل فلسطيني يقيم في سوريا ووالدتها من مخيم اليرموك، وهي تحمل الجنسية السورية. تذهب للعمل في المفوضية السامية لحقوق الإنسان في جنيف، وتقوم بزيارات ميدانية إلى المناطق المنكوبة في هذا العالم مثل أفغانستان وكردستان.

غير أن الرواية تحمل الكثير من مشاهداتي ورؤيتي إلى ما يجري في العالم.

تجربة الغربة.. ماذا منحتك، وأي خسارات سببت لك؟

الغربة منحتني من المزايا أكثر مما سببت لي من خسارات. أثق دائما بمقولة «من لا وطن له، فكل العالم وطنه». في داخلي يعيش وطن مستحيل، وأعيش المستحيل في وطن الأغراب.

تنقلت من الكويت، مسقط رأسي، إلى الأردن وبعدها إلى بريطانيا. صحيح أن الحياة في قطر عربي أسهل على النفس من الناحية الاجتماعية والثقافية واللغوية، لكنها حياة يشوبها الخوف والمحسوبية، والواسطة وانعدام الأفق.

ذهبت إلى بريطانيا طلبا للعلم عام 2002 عن طريق منحة من المجلس الثقافي البريطاني للحصول على درجة الماجستير في القانون.

في الجامعة البريطانية تعلمت كيف يكون التحصيل العلمي الحقيقي، مُنحت الحرية الكاملة في البحث وإبداء الرأي، والمناقشة وحتى في مخالفة أستاذي دون وجل أو خوف، على نحو لم أشهده في مدارسنا وجامعاتنا.

تعلمت معايير البحث العلمي وأصول الحوار، واحترام الرأي الآخر، وإبداء الحجة، واكتشفت أهمية المراجع العلمية التي كان أساتذتي في الجامعة الأردنية يتجنبونها، مكتفين بكتبهم فقط.

ورغم عدائي البيّن لسياسات الغرب المتعلقة ببلداننا العربية، خاصة فلسطين، إلا أنني لا أستطيع إنكار ما يتمتع به الغرب من حرية، ونظام، واحترام للقانون.

من يقرأ أعمالك الروائية يشعر بوجود ثقل للتاريخ والماضي على مجمل الشخصيات والأحداث، فما هو الدافع الذي يجعلك أو يجعل الشخصيات تستدير إلى الماضي؟

عموماً، رواياتي لا تعود إلى التاريخ البعيد بقدر ما تستند إلى تاريخ الشخصيات ذاتها، وتستذكر ما عاصرته هذه الشخصيات من أحداث، خاصة ما يتعلق بالنكبة والنزوح من القرى والمدن الفلسطينية، وهو أمر لا بد منه لتكريس انتمائنا إلى هذه الأرض.

بعد عقود من الزمان ستعدّ الأعمال الروائية مراجع مهمة للتوثيق، خاصة في ظل الهجمة الشرسة للتهويد التي يمارسها العدو الصهيوني.

 العودة إلى التاريخ أو الماضي بالنسبة لي هو من قبيل الحفاظ على خزين الذاكرة والتمسك بالهوية. الرواية قد تغدو في وقت من الأوقات مستندا تاريخيا نواجه به العملية الممنهجة لتغيير المناهج التاريخية، ومحو الذاكرة الجمعية والتشكيك بالوجود الفلسطيني من الأساس.

في أعمالك يبدو التركيز على شخصية الأنثى في أشد تعقيداتها ضد التركيبة الأبوية، فهل تعتقدين أن الأعمال الروائية بإمكانها أن تفعل شيئاً على هذا الصعيد، لتغيير صورتنا المشوّهة؟

أعمالي الروائية جميعها تقدم نماذج للمرأة الصلبة، القوية المغتربة والمعتمدة على نفسها. بطلاتي نساء تمرّدن على النظام البطريركي التسلّطي، وعلى الأطر الاجتماعية التي تحد من حرية المرأة في اتخاذ القرار، وفي التعليم، وفي العمل والسفر لاكتشاف ما خفي من أسرار هذا الكون.

مشوار بطلاتي للبحث عن ذواتهن وتحقيق أهدافهن لم يكن سهلاً، فقد واجهن الكثير من العقبات والأفكار النمطية، التي تمكنّ من تجاوزها وتسخيرها لخدمة مصالحهن. وعليه، فإن الأعمال الروائية بإمكانها خلق عوالم مدهشة، وتقديم نماذج فاعلة ومكافحة من أجل تغيير الصورة النمطية المشوهة التي حاول الكثيرون تكريسها عن المرأة.

إلى أي حد يرصد الكاتب حركة المجتمع؟ وإلى أي مدى يمكن أن يحدث تغييراً في مجتمعه؟

جميع رواياتي تتطرق إلى قضايا راهنة، خاصة ما بعد التحولات السياسية الكبرى. رواية «موزاييك» لخصت حركة المجتمع، خاصة المرأة بعد اتفاقيات وادي عربة وأوسلو، ورواية «شتات» تتبعت حركة المجتمع بعد الحرب الأولى على العراق.

رواية «خطوط تماس» شرحت حركة المجتمع في عصر الإنترنت، وتحدثت عن علاقات ما كان يسمى بغرف الدردشة، أما «منّ السما» فقد تتبعت حركة المجتعات العربية بعد ثورات الربيع العربي، وما تبعها من صعود لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

 في ما يتعلق بإمكانية إحداث تغيير، فإن الرواية بحكم وظيفتها كأداة للمعرفة يمكنها أن تطرح أفكاراً تقدمية تساهم في إحداث التغيير على المدى البعيد، هذا على فرض وجود جمهور قارئ وقادر على التقاط الرسائل التي تحملها الرواية.

هل يمكن أن ينتج الكاتب أدباً جيداً، في ظل الرقابة؟ وماذا عن رقابة الذات، إلى أي مدى تفيد الكاتب؟

في رأيي، لا يمكن للأدب أن يزهر في تربة مظلمة مقيدة بسلاسل الرقابة. يحتاج الأدب إلى فضاء واسع محلّق في سماء المخيلة، ويحتاج أحياناً إلى الكثير من الجنوح، وهذا يتطلب حرّية كاملة دون إسفاف أو ابتذال بالطبع.

 بالنسبة لي، عادة ما أكتب دون التفات إلى أي نوع من أنواع الرقابة، وحدث أن استدعيت لدائرة الرقابة عندما تقدمت إليهم لإجازة روايتي «موزاييك» بسبب (جرأتها).

 وبعد مناقشات مطولة جرى الاتفاق على إجراء بعض التعديلات الطفيفة، وتغيير بعض الألفاظ التي اعتبرها الرقيب نابية. كما واجهت رواية «منّ السما» صعوبات في النشر بسبب تطرقها لقضايا سياسية حساسة.

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي