التشكيلي المغربي الحسين إيت أمغار… انطواءات الجسد

2021-10-27

إبراهيم الحَيْسن*

الفنان التشكيلي الحسين إيت أمغار (من مواليد بلدة سكساوة – إمينتانوت عام 1967) مبدع حقيقي، هادئ، ومتأمِّل يشتغل في صمت دون ادِّعاء، موهوب وذو مهارة عالية في الرسم والتعبير الصباغي في أبعاده التعبيرية.

اشتغل لسنوات على الكائن البشري صباغة وتصويراً، قبل أن يتفرَّغ لاحقاً إلى إنجاز لوحات مُغايرة، وظف فيها تقنية الملاعق المسطحة Spatule على سطح القماش لمزج الألوان معاً، وإنشاء الطلاءات داخل كتل صغيرة ومتراصة.

مقاومة العزلة

بمهارة تلوينية فائقة، ومنذ سنوات ليست بالقليلة، يحاول إيت أمغار إعطاء الجسد أبعاداً تعبيرية مغايرة، ترسم حالات اليأس والقلق التي تدفع بالإنسان أحياناً إلى دائرة الانطواء والانعزال والانكماش على النفس، وذلك باعتماد تقنية لونية مختلطة تجمع بين الصباغة والأقلام الشمعية والأحبار Encres وغير ذلك من المواد والخامات التي يهيِّؤها ويرشها فوق قماش مفتوح وممتد على الأرض، قبل لفِّه وتثبيته على الإطار الداخلي Châssis، حيث يجعل منه مساحة للرقص والقيام بحركات وإيماءات جسمانية على منوال طقوس الجذبة

والحضرة Trans للتخلص من حالات الضغط والقلق، على إيقاع أنغام كَناوة، إلى جانب تشكيلات موسيقية افريقية أخرى من موريتانيا ومالي والسنغال، موسيقى لتأثيث المناخ العام لهذه التجربة الأدائية التي تجد صداها في الحدثية «الهابينينغ» لاسيما مع الفعلانية الأمريكية بزعامة الفنان الغنائي جاكسون بوللوك، الذي يقذف بالأصباغ اللونية ويشتتها بواسطة دلاء وأسطال مثقوبة، على إيقاع حركات جسدية فوق قماشة اللوحة الممتدة على الأرض.

فرسم بوللوك – كما يقول- لا يأتي من مسند اللوحة، فهو نادرا ما يشدُّ قماشاته على الإطار قبل الرسم.. يشتغل على الأرض لأنها تشعره براحة كبيرة وبالألفة تجاه ما ينجزه.

بعد ذلك، يقوم  إيت أمغار بفتح القماش وتفحُّصه مستغلاً طيَّاته والتواءاته وكذا التمازجات اللونية التي تغطيه، حيث تتضح له ملامح وسمات الشخوص والأطياف البشرية التي يرغب في رسمها وفق الصور التي تتبدَّى له، وهي عموماً انعكاس لذاته، ولقلقه اليومي مبدعاً وإنساناً، وقد أطلق على هذه التجربة التي أنجزها عام 2001 تعبير «رقصات على مربع». تعالت هذه الرقصات وتجدَّدت فوق قماشات مربعية الشكل، فاسحة المجال بذلك لتبليغ الرسالة، حيث «يحتضر الجسد بلا إطار، ويخسر من أيِّ قوة جسدية، ينهار ويكافح في حيرة من أمره في أوضاع لا تنفصم، وتتحرَّك الأطراف المفككة بلا هدف، أو تحت السيطرة، وتُترك لوجودها الوحيد السخيف.

فهذا التعبير التشريحي، المصاغ بلغة تشكيلية مؤثرة، ما هو إلا تجسيد لنظرة مؤلمة في وجه المعاناة ونقلها» كما يقول الباحث وأستاذ تاريخ الفن فريد التريكي.

ولم يتوقف إبداع الفنان إيت أمغار لهذه الرسوم التعبيرية عند هذا المستوى، بل إنه بلغ بتجربته إلى حَدِّ تجريب معالجات جسدية معاصرة، استعمل فيها أساليب الفيديو- آرت بتصوير ونقل دواخل الجسد بواسطة حوامل بصرية دقيقة وفاحصة على نحو تشكيلي يُبرز أشكال الانفعال الباطني، وعكسه ليبدو مثل كليشهات تتحرَّك بداخلها كائنات لونية متمازجة ذات تشكلات تجريدية فائقة التعبير، لكنَّها تظلُّ مع ذلك عصية على الفهم والاستيعاب، دون فهم سياقها وأبعادها الرُّوحية، ودون العودة أيضاً إلى المراحل الإبداعية التي مهَّدت لها، كان الفنان توَّجها بمعرض فردي ثيماتي أطلق عليه اسم «أركيولوجيا الجسد» احتضنه رواق القبة في مراكش طيلة الفترة الممتدة بين 22 يونيو/ حزيران وفاتح يوليو/تموز 2012.

الوقوف ضِدَّ الاستبداد

أجساد الحسين إيت أمغار، هي – بالتأكيد- بنيات جسمانية نحيفة ومحتشمة..عارية تغيب تفاصيلها وقسماتها لتظلَّ مجرَّدة رافضة متمرِّدة.. تحتج بطريقتها الخاصة ضِدَّ ضنك العيش ومصادرة الحلم.. وترفض كل أشكال السُّلطة والرَّقابة والعنف الذي يُمارسه «الأقوياء» على أجساد الضعفاء. فهذا الاحتجاج.. وهذا الرفض يرسمان في عمقهما التواطؤ بين إرادة القوة والسُّلطة من جهة، وإرادة المعرفة والخطاب من جهة أخرى، لحرمان الجسد وتجريده من كل مؤهلاته، وحصر طاقته فقط في الإنتاج، ويطلق البنيوي الفرنسي ميشيل فوكو على هذه الممارسة عبارة «التشريح السياسي للجسد الإنساني» في إشارة إلى تدجين الجسد وترويضه.. أجساد من نوع آخر، فاقدة لصلابتها البدنية، إذ تبدو منطوية وملتفة حول نفسها داخل أحياز صغيرة مثل زنازين مظلمة..

وهيئات جسمانية لا ملامح لها، تتشابك فيها الأيادي والأرجل وباقي الأطراف، أما الرأس فلا يظهر منه سوى الشكل المتكوِّر الذي بقي منه. ورغم أن «العزلة لا تملك تاريخاً»- كما قال غاستون باشلار، إلاَّ أنها مثلت لهذه الأجساد النحيفة ملاذاً واختياراً وموقفاً ذاتيّاً من القسوة والجراحات التي تسبِّبها المكابدات والأحزان والمآسي المتراكمة والمخزونة.

هي بالتأكيد أجساد محتشدة يقتلها الحزن، ويسرق منها الحق في الحلم والحياة.

فما الذي جعلها تظهر في هذه الوضعيات الكئيبة؟ ولماذا أصرَّ الفنان على إظهارها بكل هذه الصور المعبِّرة والمحرجة في آن؟ لعلَّ في الأمر رسائل إنسانية عديدة أراد إظهارها لأنها تحمل في عمقها واقعاً مأزوماً مسكوتاً عنه، ينخر عالمنا المعاصر المحاصر بالكثير من التابوهات وأشكال القمع والجبروت والاستبداد..

هو ذا المشروع الفني الذي بَصَمَ تجربة الفنان المبدع الحسين إيت أمغار الذي يجمع بين التحضير الذهني والاشتغال التقني ولديه رؤية فنية وجمالية واسعة تجعله محلَّ تقدير واحترام ضمن أعضاء جيله من التشكيليين المغاربة الذين يسكنهم هاجس البحث والتجريب والممارسة الجمالية الخلاَّقة والمبدِعة..

 

  • ناقد تشكيلي من المغرب

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي