"جحيم حيّ": حيث دهاليز التاريخ والألم

2021-10-20

«جحيم حيّ» التجربة الشعرية الأولى للشاعر إدريس سالم

أفين أوسو*

هل يمكن للكلمة الشعرية أن تواجه الواقع وتجعله عالماً شعرياً، من خلاله نعلن العصيان على واقع يصعب تأويله؟

«جحيم حيّ» التجربة الشعرية الأولى للشاعر إدريس سالم، التي أصدرها لدى دار «فضاءات» للنشر والتوزيع، وقد رصّد فيها المشاكل المجتمعية والنفسية والسياسية، ليتخبّط القارئ في جحيمه الحيّ، الذي تدوي فيه صرخات الكرد وصيحاتهم.

لا يخفى التقارب الفنّي والدلالي بين لوحة الغلاف التي رسمها التشكيلي أصلان مَعمو، وعنوان المجموعة وعناوين قصائدها، لنرى رجلاً بلا رأس بصمود جذوره. تفتقر مجموعته للإهداء، وكأنه يقول: «لا أحد يمكن أن نهديه جحيماً حيّاً، بكل ما فيه من دماء ومجازر واغتصاب فكري وجسدي»، ليأتي ـ بدلاً من الإهداء ـ بنصف كلمة، فيها يخبرنا عن أب ذي ابتسامة جميلة، يكتب قصائده على إيقاع شخيره الهارب من خلف رئتين

تنتحبان ألماً، ليسأله معاتباً: ماذا جنيت من النوم الباكر يا أبي؟ حين يلحّ عليه بأن يكفّ عن السهر، ليجيبه والألم يفتك بصحته: «النوم صحّي لجسدي»، فيأتي ردّه: «والسهر صحّي لروحي»، هذا الحوار دلالة على ما يفرضه الآباء من أوامر وهم أنفسهم لم يجنوا منها خيراً في ردّ جميل له. وهنا أمّ تدخّن بشراهة في مطبخ بارد ملتحف بشتاء متجمّد، وعلى شرفة بائسة صيفاً «لعلّها تنعم قليلاً بملح الطعام وسكر الشاي»، إشارة

لحرصه عليها وخشية أمراض قد تصيبها، كالضغط والسكّري وغيرهما من الأمراض. تعثر بين قصائده على صديق كفيف ينعم بنور البصيرة، ليسند قامته إليه ويخبره بأن حوّاسنا وأطرافنا وإن فقدت فلا تفقدنا الحياة، ولا تقضم من أرواحنا، وإن كان ثمة مرضى عقول، يهين ويشفق، فيقول ويوجّه كلامه لصديقه ريزان صالح إيبو:

يا ضريرَ الشرِّ،

يا بصيرَ الرُّوحِ:

لا تصادقْني

لإعاقة تخجلُ من همهمات

تتفوّهُ بحماقات في أزقّة تنوح!

نحن ـ العائدين من الحرب ـ نتوسّد مآسينا، ولا يمكن أن نجرّد أنفسنا وذاكرتنا المتخمة بقصص الحرب ووقعها علينا، ولأن الكتابة كانت ولا تزال مهرباً سرّياً ليمرّر الكاتب حقيبة أفكاره ورسائله للشعوب المضطهدة، اختار أن يكتب عن الحرب لطالما كنّا فريستها، وهذا يتجلّى بوضوح ضمن خريطة فهرس المجموعة (أيتام وطن من ورق، بلاد منحوسة، مدن الاغتيال، وطن معتّر، خيمة حرب… حرب أرقام، لجوء يرقص مع الحرب، وخساسة المنفى).

ثمة قصائد لا تاريخ لها، فيما المؤرّخة فإنها تتفاوت بين عامي 2010 إلى 2019، أيّ جمع لنا ما عاشه ما قبل وقوع مجزرة كوباني، وفي خضم اقتحام «داعش» لمدينته وهو شاهد عيان حيّ، وبعدها حيث هو فارّ من الحرب ولاجئ ومنسيّ على لائحة الأرقام الدولية.

يقول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف: «شيئان في الدنيا يستحقّان المنازعات الكبيرة… وطن حنون وامرأة رائعة»، وهنا سالم كأنه يتفق ولو ضمنياً مع مقولة حمزاتوف، حيث يختتم جحيمه بقصيدة طويلة عن جحيم المرأة، حزام من نار مشدود على خاصرتها، نواحها يعلو بين سماسرة الدم والحلم «خطفوا منها قدسية أصابعها»، تغتصب بإجبارها على الزواج، وتغتصب حين ينفض غبار الطفولة عنها، وزفّها لرجل لا تدري ما

دورها في بيته، وما زال غبار الطباشير يتطاير من بين أصابعها «مزّقوا رغبتها على وسادة بلهاء»، ليسلب منها رغبتها في الحبّ، وتكون آلة لترضي بعلها كل مساء «والقمر يسكب دخاناً على حدائق الشبق»، تذهب لتعايش واقعاً بقلب لا روح فيه، كغصن شجرة ستحال يوماً إلى حطب ورماد «ذهبَتْ لمحاضنته، لتلفَّه كالأفانين»، وكما نتعثّر بين كلّ قصيدة وجود صارخ للأنثى.

يخبرنا بشيفرة مدبّبة بالوجع من خلال اسمها (بروين)، وهي ربما الحبيبة التي احترق جناحاها بنور الشمس البنفسجي، ذات فراق حارق، أو كناية عن المرأة الكردية المقموعة في المجتمع الذكوري، حيث يقول في المقطع الأول من قصيدته «بقايا امرأة»:

أكتبُ لبقايا امرأةٍ

خطفوا منها قدسيةَ أصابعِها.

أن تكون كردياً يعني أن تنذر قلمك وروحك، لذاك الحلم المسلوب، على أربع جهات لعينة، وتشيد صرحاً من الطين، لتتربّص أمواج قدر أحمق كيف تحيله لرمال، وهنا في «جحيم حيّ»، هذه المجموعة الشعرية التي تأخذك في جولة لدهاليز التاريخ والآلام، لترى لقطة لمجزرة وقعت في مدينة كوباني وأخرى في مدينة عفرين، وصورة للحرب السورية بأكملها، أيتام، قطط مشرّدة، كلاب تنبح جوعاً، وأكياس تتقرقع من العظام، لتخرج وإن استطعت الخروج بنصف مبتور، بوجه منكمش، وصداع ينبض بتلافيفك العدمية، فأيّ سيريالية هذه ليأتي بهذا الكم الهائل من الألم، فيقول في قصيدته «ذاكرتان… لخمسة أيتام»:

أرسمُ بدماء الطيورِ

حدودَ اللغاتِ…

من الجدائل

خرائطَ النكباتِ…

أنا الكرديُّ

أُكَافَأُ دائماً بالقبور.

يقول الروائي السوري مازن عرفة: «ما بين أنفال حلبجة وزيتون عفرين، تتكرّر المجازر باسم الإله، كأن الكرد لم تكفهم وحشية «داعش»، مثلهم مثل كل شعوب المنطقة وإثنياتها المختلفة، يبدو «الإله» في الشرق متخصّصا بإبادة الشعوب». وهذا ما عكسه الشاعر إدريس سالم في جحيمه الحيّ، عندما يقول:

زرعوا في نفوسنا

قائداً قوّاداً

يتوضّأُ من جمرنا،

ويصلّي.

لا شكّ في أن القضية الكردية بالغة التعقيد، جدلية بجغرافيتها ومساحتها وسكانها، في كلّ حدث ـ يحاول مَن يديرها في الخفاء ـ فكّ تشابك خيطين، فكلما نأمل بالخلاص ينتهي بنا المطاف بتشابك عُقد عنكبوتية أخرى؛ الكرد ضحية أحزابهم في الدرجة الأولى، والنكسات الستّ التي عصفت بالحلم الكردي حوّل الأمل إلى جيفة كحال القضية، وهنا سالم كمناضل يحقن دماء أمّته سدّاً من قلمه، فيقول:

تعلّموا..

أنّ الاعتقالَ والاغتيالَ

لا يبنيان الأوطانَ

لا يزيلان الاستيطانَ.

هذا الحبّ بين وطن ومواطنه، ذكّرني بملحمة «جلجامش» وعلاقته مع «أنيكدو». فجثّة أنيكدو وهي تتغلغل بالديدان دفع بجلجامش للبحث عن الخلود والحياة الأبدية، وهنا الشاعر الكردي مدفوع ليجوب أرجاء البسيطة في داخله، لينبش عن إكسير الحياة لقضيته، بعد أن كان شاهداً على المجزرة التي نحرت مدينته، وكيف غلّتِ الديدان مسقط رأسه، فجلجامش وأنيكدو كانا في صراع كبير، كذلك كان الكردي في صراع أبدي مع جغرافيته، ولد في وطن لا يمنحه أبسط حقوقه، محروم من الهوية التي تثبت قوميته ولغته، ليصارعه حتى يسقط خاسراً، وتعقد صداقة متينة وقوية بين الثنائي، وهو الكردي بعد أن يشيد مع الأزقة والحوانيت تلاحماً بالذكريات، فتصبح تلك البقعة التي كان يجد نفسه غريباً فيها أقرب الأماكن لنفسه، وتقوى العلاقة بينهما.

لن يموت الكردي وإن مات حلمه، يسري في عروقه دم الآلهة كما جلجامش. يرى الشاعر في الأبجدية العشبة التي تبقيه خالداً، فيلج في أعماق البحر ليخرجه ذاك الوطن الذي تناءت بينهم المصالح، تراه يتراشق تارة بالاتّهام وتارة يخبر العدوّ باستحالة يحقّق مأربه وبكسر استقامة ظهره:

لو حفرْتُم حتّى تاسعِ أرضٍ

فلن تُسقِطونا…

ويعني هذا أن قصائد سالم تغلب عليها الرؤية الوطنية والذاتية الوجدانية المطعّمة بالألم والعبثية، غالبيتها تنتمي إلى القصائد الوطنية القائمة على مدح الممدوح، وتعداد مناقبه وفضائله، ورصد منجزاته، والدعاء له بالسلام واليقظة، وينتمي هذا النوع من الشعر إلى ما يسمى بشعر «العرشيات»، الذي يتّسم بالنزعة الوطنية، والإخلاص، والولاء، والدعوة إلى الوحدة الوطنية.

أما الرؤية الذاتية في المجموعة، فتتمثّل في التغنّي بالذات واستكناه الوجدان الاستبطاني، واسترجاع الذاكرة زماناً ومكاناً وطبيعة وأشخاصاً، ليستخدم التراكيب اللغوية السلسة التي لا تدفع القارئ ليتأبّط المعجم وهو يجول وراء معنى الكلمات ودلالاتها الرمزية، لكنك في المقابل تتأنّى أمام القصيدة؛ لتحاول فكّ رموزها، لتجيد ما يريد الشاعر قوله، يعتمد في ذلك على التكثيف والإيحاء والاختزال، ليجمع كل ما يريد قوله في سطور قليلة:

لم عاقبْتَنا

فأوجدْتَنا

مع شعب كغُول جَهُول؟

تتلقى الصفعة وتدير وجهك لتلقي أخرى، وأنت طوع أمر حصار يحاصرك، وذاكرتك ملوّثة بالدم واللحم، لمدنك ولقضيتك المخصية.

تكتم غيظك وأنت تتقلّب على جمر الكلمات، تتحدّى ذاتك، لن أبكي ولن أدوي صراخاً أمام هذه القصيدة أو تلك، وما أن تنتهي الرحلة سيراً على مسامير من نار، تسقط خاوياً من النبض مثقلاً بالأوجاع، تمعّن سماءً حالت رماداً، وتسأل ربّاً نائماً منهكاً بتبجيله: لماذا خلقتنا ـ نحن الكرد ـ يا الله؟! ألنكون ملقطاً تلقط تلك اللعنات اللاهثة على الأرض، أم لنكون فأر تجارب في مختبرات جحيمك في هذه البلاد؟

وكطفل يتيم يخشى أن ينسى ملامح أمّه، يدقّ بمسامير صدّأت من دمه، فيجعل من جدران شبابه لوحة مزدانة بالصور والكلمات، ليقرأ من خلالهما خريطة وطنه المغتصب قراءة واقعية، ليبقى يحثّه على التذكير بملامحه تارة، والأخذ بالثأر تارة أخرى.

 

  • كاتبة سورية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي