أجراس: هذه الرأس .. ربما طبق، ربما قصيدة!

2021-10-10

الشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم حسن المطروشي*

تعد تجربة الشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم إحدى التجارب الريادية والفارقة في المشهد الشعري اليمني والعربي على حد سواء. إنه من الثلة القليلة التي أخلصت للشعر ووهبت له حياتها بطواعية تامة. كان يكتب اللحظة ويبتكر الفكرة بإتقان ماهر، ويقتنص الأبعاد الكامنة في الأشياء والأحداث، يسجلها شعرًا صافيًا مجللًا بالدهشة، شعرًا يشبه حياة الشاعر ويتناص مع ذاته وفكره المطبوع بالتمرد والثورة والحرية والجنون والصعلكة والمغامرة باتجاه الأسئلة الجارحة واللايقين. لقد كان شاعرًا جوابًا وهادئًا، مسكونًا بالإنسان وهواجسه وأحلامه الخضر. ناضل طيلة حياته من أجل عالم أكثر سكينة وجمالًا وأقل بشاعة وشرًا ووحشيةً.

تنطوي قصائد محمد حسين هيثم على أفكار صادمة ومجنونة، وهي في الوقت ذاته لا تخلو من هجاء مبطّنٍ للواقع وسخريةٍ لاذعة من العالم وعجرفته وجبروته. في هذه المقالة نسلط الضوء على قصيدة (هذه الرأس) التي نشرها في ديوان (استدراكات الحفلة)، وهو الديوان قبل الأخير له، قبل أن يغمض إغماضته الأخيرة، ملوّحًا لوداع هذا العالم للمرة الأخيرة.

يشتغل الشاعر في هذه القصيدة على مفردة الرأس، بما تعنيه من دلالات وحمولات فكرية وفلسفية. وهو في ذلك يتناص رؤيويًا مع الكثير من الأدبيات التاريخية والإنسانية والإبداعية التي اتخذت من الرأس مرتكزًا رئيسًا تدور حوله مضامين أعمالها.

في الأدبيات التاريخية الإسلامية تبهرنا حد الدهشة الروايات المتضاربة حول رأس الإمام الحسين (رضي الله عنه) ومكان وجودها، وتقترح هذه الأدبيات أمكنة متباعدة، وتسعى كل رواية إلى تعزيز فرضيتها وإثباتها، ليظل الباحث والقارئ حائرًا في البحث عن ما يشبه اللغز في رحلة البحث عن تلك الرأس الشريفة. فمن يرى أنها في المدينة المنورة، بينما يرى آخرون أنها في مصر، وترى روايات أخرى أنها في العراق، إما أن تكون في كربلاء أو النجف، فيما يرى آخرون أنها في سوريا، ويرى البعض أنها في فلسطين وفي عسقلان المحتلة تحديدًا.

السينما العربية أيضًا عنيت بمفردة الرأس من خلال الفيلم العراقي (الرأس) الذي تدور أحداثه حول سرقة رأس ملك مملكة الحضر سنطروق الثاني، آخر ملوك الحضر. ويصور الفيلم مطاردات شيقة بين قوى الشرطة وعصابة المهربين الأشرار، تدور بين سوريا ولبنان والعراق، بغية استرجاع الرأس وإعادتها إلى موقعها.

وفي ميدان الرواية أيضًا احتفت رواية (الرأس) الشهيرة للروائي الأذربيجاني إليتشين أفندييف، بفكرة الرأس كمنطلق فلسفي لسرد حكايتها التي تعالج قضايا تاريخية واجتماعية وإنسانية عديدة. يقول الكاتب المصري محمود سعد دياب: "وللوهلة الأولى، يبدو أن موضوع الرواية هو قطع رأس الجنرال "سيسيانوف" قائد جيش الاحتلال بالإمبراطورية الروسية في إمارة "باكو"، وإرسال هذا الرأس إلى الشاه "فتح علي شاه قاجار"، ولكن هذه "الرحلة" لرأس الجنرال "سيسيانوف" كانت مجرد إطارٍ أتاح فرصة واسعة في الرواية، لتصوير الشخصيات الإنسانية والأحداث التي وقعت في مساحة جغرافية واسعة، شملت إمارات "أذربيجان"، وإمارات ومملكات "جورجيا"، و"داغستان" وروسيا، وسلطنة القاجاريين، والإمبراطورية العثمانية، وكذلك أوروبا".

أما الشاعر محمد حسين هيثم في قصيدته (هذه الرأس) فيحتفي برأسه المثقلة بالهموم، الرأس التي يكتنز فيها محصّلة حياة طيولة من الذكريات والانكسارات والمشاهد والوجوه والأصوات والحزن والفرح، والكثير من الشقاوات التي يقتل بها الشاعر مراراته ومكابداته وخيباته. يطرح الأسئلة عن ماهيتها ويسرد أحوالها ويتابع ترحالها كل يوم، ويستميت من أجل الحفاظ عليها لئلا تسقط. في مطلع القصيدة يتساءل الشاعر:

هذه الرأس

ثمرة، أم طائر

أم طبق معدني

أم قصيدة نثر؟

هذه الرأس

لا أعرف حتى كيف تستخدم

غير أني كل يوم

أطوّر طرقًا للحفاظ عليها

وحين نتوقف مع هذا المطلع من القصيدة لا نجد ما يربط بين الثمرة والطائر والطبق المعدني وقصيدة النثر، سوى مخيلة الشاعر وبراعته وقدرته على جمع كل تلك المتنافرات في سؤال سوريالي أكثر من كونه استفهاميا عن هذه الرأس الغرائبية. وحين نتجاوز القشرة الأولى للسؤال، تتفتح أمامنا الصورة عن أسئلة أخرى تختبئ تحت السطح، لندرك قساوة المشهد ومرارته، في أن يبحث الإنسان عن إجابة عن رأسه التي يحملها على قامته طوال الوقت. فهو لا يعرف كنهها. هذه الرأس المخاتلة تبدو له كل مرة في هيئة مغايرة، ورغم ذلك يبتكر الطرق ويطور الأساليب للمحافظة عليها. ورغم تفانيه وبسالته في إيجاد الوسائل الممكنة للمحافظة على هذه الرأس، فإنه يدرك بأنها آيلة للسقوط في نهاية المطاف.

هذه الرأس هي كل ميراث الشاعر من حطام الدنيا، وأغلى مدخراته ورصيده من الذكريات والأحلام وبضع كلمات يرمم بها وجه اللغة الكالح ويشيد منها مجده الهش من القصائد والنكات اللاذعة. لذا فهي معادل وجودي لحياته وضرورة كبرى لبقائه، وعليه أن يحث الخطى كي يقطع بها أطول مسافة ممكنة، أن يكتشف مدنا وأرصفة ومقاهي جديدة، وأن يزور عوالم أخرى، وأن يقابل وجوها جديدة، وأن يمارس الكثير من الحياة، قبل أن يُمنى بفداحة فقدانها وسقوطها الحتمي في نهاية المطاف. يقول:

"وعليَّ أن أقطع بها أطول مسافة ممكنة

أن أمضي بها بعيدًا

قبل أن تسقط من تلقاء نفسها"

إذن هذه الرأس مهيأة للسقوط تلقائيًا كقدر حتمي للأشياء، ولكن ثمة أسبابًا أخرى عديدة لسقوطها، يذكرها الشاعر في ثنايا القصيدة، كما يذكر، بطريقته الساخرة المعهودة، أنها جلبت له الكثير من الجوائز أيضًا:

هذه الرأس

قد أحصل من جرائها جوائز كثيرة:

سلة كبيرة من الأحقاد

وشاحًا مطرزًا بالحكمة

نظارات للتذكير بالأذنين

عصا لممارسة التعثر بإتقان

طقما صالحا لعدم المضغ

بروستاتا أسطورية لللعب البنج بنج مع الجدران!

ويصور جانبا من أساليبه وطرقه التي يبتكرها من أجل الحفاظ على هذه الرأس من السقوطـ، كما يشير إلى بعض الأسباب المحتملة لسقوطها، فثمة من يتربص بهذه الرأس الثمينة ليقتلعها من مكانها لأسباب تافهة، إذ يقول:

وأغمدها بقوة بين كتفي

وأرفع ياقتي

حتى لا تسقط مني في الزحام

بسبب صفعة من شرطي

تأخر راتبه الشهري

من يضمن لي أن أحدهم

لن يفكر بإعجاب:

" يا لهذه الرأس

يجب أن نرفعها عاليًا

عاليًا جدًا

ليراها الجميع"!

يدرك الشاعر بحدسه الثاقب أن هذه الرأس ستفارقه في نقطة ما، رغم تعدد الأسباب وقلة وجاهتها أحيانًا، كأن تهوي بصفعة طائشة من شرطي غاضب تأخر راتبه الشهري، أو يعجب بها أحدهم، ويقرر رفعها عاليا ليشاهدها الجميع. هكذا ببساطة متناهية يقرر أحدهم، على سبيل الإعجاب، أن يفصل هذه الرأس عن جسدها لتكون تحفة معلقة في الهواء، كي يراها الناس وتكون عبرة لأولي الألباب. إنها مجرد رأس شاعر مشاغب ليس أكثر. ومما لا شك فيه أن تصوير الشاعر المسألة هنا بالإعجاب لا تخلو من التهكم والسخرية التي تنطوي على بعد أعمق، فهو يشير إلى ممارسة غاية في الوحشية لا تقوم بها إلى سلطة متنفذة، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية، تضيق ذرعا بهذا الشاعر فتقرر التخلص منه على النحو الذي ذكره في القصيدة. وهنا تتجلى أمامنا الكثير من الأمثلة والنماذج عبر التاريخ، حيث مارست السلطات المختلفة جبروتها ضد مخالفيها أو ممن لا ترغب في سماع أصواتهم، فكانت نهاياتهم مأساوية وكارثية.

إن قصيدة (هذه الرأس) للشاعر محمد حسين هيثم، قصيدة مخاتلة مراوغة، تنطوي على مرارة كبيرة يغلفها الشاعر بلغته الساخرة وجمله اللاذعة، ويضع بين سطورها أسئلة مفخخة لا يترك لها إجابات محددة. إنها قطعة أدبية ذات طبيعة جمالية وفلسفية من طراز خاص.


*شاعر وناقد عماني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي