التحول من الشفاهية إلى الكتابية لدى كتاب القرون الوسطى

2021-09-12

العرب وضعوا البذور الأولى للرواية والقصة القصيرة

يعتقد الكثيرون أن الرواية التاريخية بدأت مع السير والتر سكوت (1771 – 1832م)، لكن الروائي والمؤرخ الإنجليزي روبرت إروين يرى أنها بدأت بكتاب ابن زنبل الرمال «انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان». هذا الكتاب الأقرب إلى فكرة الرواية التاريخية وفقًا لمفهوم لوكاتش عنها، وفيه رصد ابن زنبل زوال دولة المماليك وبداية حكم العثمانيين لمصر.

لكنه رغم احتفائه برومانسية المماليك في الحرب، وفكرتهم التي تنتمي إلى بداية القرون الوسطى عن الأسلحة واستخدام الرسول والصحابة لها فإنه لم يخفِ تقديره للعثمانيين. وأخلص في عمله لرصد الدوافع النفسيه لأبطاله أكثر من إخلاصه لذكر الحقائق والوقائع التاريخية، واهتم برصد الحوار الشفاهي بين الشخوص، كأنه كتب عمله من أجل أن يقوم بتمثيله حَكّاء في مقهى، ولم ينسَ كثيرًا من الموضوعات والثيمات التي انشغلت بها ملاحم

كالإلياذة أو السير الشعبية، وهو ما جعله أول عمل روائي تاريخي، يمكن أن تنطبق عليه مواصفات لوكاتش عن الرواية التاريخية، كما يتفق مع مواصفات إي. إم. فورستر عن الرواية في ولعها ورومانسيتها واهتمامها بالشخصية والحوار، وميلها للتوضيح لا الإخبار، واستخدام الحدث الدرامي والقدرة على تلوين الصورة اللفظية، فوظيفة الكاتب هي كشف الحياة الخبيئة في مصدرها، كأن يحكي عن الملكة فيكتوريا أكثر من المعروف، وأن ينتج شخصية ليست الملكة فيكتوريا التاريخية، وهو ما فعله ابن زنبل في كتابه «انفصال».

تذخر الثقافة العربية في القرون الوسطى بالعديد من أشكال التعبير التي ابتكرها العرب، لينتجوا من خلالها فنونهم وأفكارهم ومواقفهم من العالم وقضاياه، هذه الأشكال والفنون التي تَوفَّرَ مجموعة من الباحثين الغربيين على دراستها في مختلف المنجز الثقافي العربي، منتجين واحدًا من أهم المراجع التي درست العقلية العربية في القرون الوسطى، وهو كتاب «الكتابة وأشكال التعبير في إسلام القرون الوسطى – آفاق المسلم» ترجمه مؤخرًا

الشاعر المصري عبدالمقصود عبدالكريم عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، وقد عقدتْ محررتُه جوليا براي اجتماعًا أو أكثر مع الباحثين المشاركين للتأكيد على ما تريده من الكتاب وهو «ماذا رأى مسلمو القرون الوسطى حين تطلعوا إلى عالمهم وتأملوا مجتمعهم وتاريخهم وثقافتهم، وكيف وصفوها، وكيف أدركوا النمط والمعنى، وكيف ناقشوا المحاور التي سيعكف كل منهم على دراستها، وأوضحوا لقرائهم الفارق بين الظاهر والحقيقة الكامنة وراءه؟».

الحقيقة والاختلاق

توقف المؤرخ والأثري روبرت هولاند في دراسته للتاريخ والقصة والتأليف أمام فكرة الحقيقة والاختلاق، وذهب إلى أن العقلية العربية فضلت الحقيقة على الاختلاق، قائلًا: إن تجمعًا من رواة الشعر التقوا في قصر الخليفة المهدي، فسألوا كلًّا من المُـــــــــفَـضَّل الضَّبِّيّ وحَمَّاد الراوية عن السبب الذي جعل زهير بن أبي سُلْمى يبدأ قصيدة له من منتصف موضوعها، فقال المُـــــــــفَـضَّل: إنه ما سمع بهذا، في حين قال حَمَّادٌ: إن هذه ليست بداية القصيدة، وأنشد الخليفةَ ثلاثةَ أبياتٍ على أنها الافتتاحية الحقيقية، لكنه تحت ضغط من المهدي اعترف بأنه مختلِق الأبيات، فأمر المهدي له بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأمر للمفضل بخمسين ألف على صدقه وصحة روايته.

استخدم هولاند هذه الحكاية للتدليل على تفضيل العقلية العربية للحقيقة أكثر من الاختلاق، وهو ما جعل رؤاهم الإبداعية تتسرب في كتابات من المفترض أنها تتعامل مع الحقيقة لا الخيال، في رواية الشعر الذي توثق المعرفةُ -من خلاله- البلاغةَ القرآنية، ثم رواية الأحاديث عبر تتبُّع سِيَر رواتها الثقات، ثم سرعان ما ظهر رواة الأخبار الذين يستخدمون منهج الأسانيد نفسه وربما المصادر نفسها كي يُقبِلَ الناسُ على بضاعتهم. لكن إذا

كان ثمة شَعرة بسيطة بين الحقيقة والاختلاق أو الخيال فإن هذا لا يعني عدم وجودها، كما لا يعني أيضًا أنها تَحُولُ بينهما، وهذا ما تجلى في تدوين العرب لأساطير الخلق وبداية العالم ونهايته، وهو ما جعل من التاريخ لدى المؤرخين العرب الذين عمل أغلبهم مسؤولين حكوميين في بلاط الملوك والأمراء مصدر إلهام سياسي وأدبي أكثر من كونه رصدًا لحقيقة واقعية.

ومن ثم تجلَّت فيه الكثير من عناصر القص كالحبكة الدرامية والبنية التفسيرية والأبعاد الملحمية والشخصيات البطولية كخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهما، وهو ما نجده في كتابات الطبري وابن كثير ومحمد بن عبدالله الأزدي في كتابه «فتوح الشام».

ومن أكثر الأعمال التي اقترب فيها الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال كتاب «البخلاء» للجاحظ، فقد طلب منه أن يذكر نوادر البخلاء واحتجاج الأشحاء، فأنجزه بشكل رائع، عارضًا حشدًا من الشخصيات الغريبة للبخلاء المضحكين.

ومن المفترض أنه مجموعة من الأخبار الحقيقية عن هؤلاء البخلاء، لكن من يقرأْه يعرفْ كيف استخدم الجاحظ هذه الروايات أو الأخبار للنيل من الطبقة الغنية الناشئة في العراق، وذم العجم الذين يتقابل اهتمامهم بالثراء مع فضائل العرب في الكرم وحسن الضيافة، وهو ما يجعل المسافة بين الحقيقة والخيال قِيدَ شَعرةٍ، ويجعل من أسانيد الروايات ستارًا لتقديم رؤية إبداعية خاصة. وعلى هذا النهج أو ربما أكثر تطورًا جاء كتاب «الغرباء»

المنسوب إلى أبي الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني، والمرجح أنه لكاتب آخر مجهول، وفيه حكايات عن الذين عاشوا في الغربة، ومن ثم حكاياته ليست عن مشاهير، وليست سوى فكرة دفعت مؤلفها لإعمال خياله تحت ستار الحقيقة لإنجازها، ليقدم كتابًا عن الغرباء وحكاياتهم، وقد نسبه الناس للأصفهاني نظرًا لتشابه المنهج الذي اتبعه في كتابه الأغاني، لكن صاحب «الغرباء» تخلص من كثرة الأسانيد التي طالما استخدمها الأصفهاني لمراعاة الشَّعرة الفاصلة بين الحقيقة والخيال.

مكتبة بيت الحكمة .. أعظم مكتبات العصور الوسطى

كتابات المرأة

لعل أبرز ما يؤخذ على الثقافة العربية في القرون الوسطى أنها لا توجد بها كتابات للمرأة، فالمرأة كمؤلفة غير موجودة في هذه الثقافة، لكن أستاذة الأدب الفارسي في جامعة أوكسفورد جولي سكوت ميسامي تنفي هذا الاتهام، وتعدّه غير واقعي؛ لأن المرأة لعبت دورًا كبيرًا في رواية العديد من الأخبار، بداية من شهرزاد في ألف ليلة وليلة وغيرها من الأعمال التي مثلت التيار الرئيس للخطاب العربي الإسلامي بحسب فدوى مالطي دوغلاس مؤلفة كتاب «جسد المرأة كلمة المرأة»، ومن هذا التيار كتاب ابن البتنوني «مكايد النسوان»، وكتاب ابن طفيل «حي بن يقظان».

وترى سكوت أن ما حدث من فتنة أهلية في بداية الدولة الإسلامية في موقعة الجمل، نقل مفهوم الفتنة من الحضور الجسدي للمرأة إلى الحضور السياسي والاجتماعي، ومن ثم استبعاد المرأة من الواجهة السياسية، لكن ذلك لا ينفي حضورها كعامل محرك للأحداث ومؤثر فيه على الدوام.

شاءت جوليا براي لكتابها أن يكون في جزأين؛ الأول رصدت فيه العلاقة بين الحقيقة والخيال، والثاني منحته اسم «المظهر والحقيقة»، ليكون ظاهر الكتابة غير باطنها، ومن أبرز كتابات هذا المنحى «البيان والتبيين» الذي اهتم به أستاذ اللغة العربية بجامعة كمبريدج جيمس مونتغمري، الذي وصل إلى أن اللغة العربية لدى مفكري القرون الوسطى لغة مقدسة، فقد كان النحو شقيقًا للفقه، فكلاهما محاولة للمشاركة في الإلهامات الدينية،

وقد نشأ النحو لمنع الأخطاء في اللغة، لأنها لغة القرآن، فالخطأ فيها يعد مروقًا، ومن ثم ظهر النحو، كما ظهرت فيما بعد الرسائل التي تفضح لحن العوامّ، وتعددت أسماء النحويين، وقدموا أعمالًا في هذا السياق، وكانوا يعدُّون من يَلْحَن في اللغة غير مكتمل الأخلاق، ومن ثم ترك الجاحظ في كتابه «البخلاء» أخطاء البخلاء في اللغة من دون تصحيح؛ لأنهم غير مكتملي الأخلاق، ومن ثم فإنهم يلحنون في اللغة.

تعامل مونتغمري مع الجاحظ بوصفه نموذجًا بلاغيًّا، ووصف «البيان والتبيين» بأنه خلاصة موسوعية وافية عن العرب والعلوم الإنسانية العربية، وأنه يهتم بتوضيح البراعة اللغوية والبلاغية للعرب، وكانت نية مؤلفه إبراز أن العرب متفوقون من دون شك على غيرهم في مجالي الشعر والبلاغة، وهدفه هو تعليم الذوق العربي

للجميع، ووضع أسس للتعبير عن مبادئ النقد الأدبي، ومن ثم فهو عمل جدلي في احتفائه باللغة العربية وتوجهه ضد الشعوبية، ويحفل بالدفاع عن التيار الديني الذي ينتمي له الجاحظ، وهو المعتزلة، في مواجهة الجبرية والجهمية، ومن ثم أفرد فيه مساحات للحديث عن واصل بن عطاء ووصفه بالغَزَّال، كما أفرد مساحات أكبر

للحديث عن حروف الهجاء التي من المحتمل أن يكون بها لثغة كالتي يعانيها المؤلف نفسه، وعلى عكس ما يرى الناس كون البيان والتبيين كتابًا أدبيًّا فإن مونتغمري يرى أنه ينتمي إلى الأعمال السياسية الدينية، وهدف منه الجاحظ إلى الدعاية للعباسيين والعرب من جهة، ومناصرة المعتزلة ومذهبهم من جهة أخرى.

المقامة

لم يكن لمرجع مهم عن أشكال التعبير في القرون الوسطى التي سيطرت عليها الثقافة العربية أن يتجاهل وجود المقامة، كأحد أهم الفنون التي ارتبطت بالثقافة العربية، والتي بدأت مع بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، لتشهد ذروة نشاطها الإبداعي بعد قرن ونصف على يد الحريري، وما بين الرجلين مر العديد من

الكُتاب الذين اندثرت أعمالهم، ومن ثم توقف أستاذ اللغة العربية بجامعة نيويورك فيليب كيندي أمام ما كتبه المغربي عبدالفتاح كليطو في كتابه «المقامات»، ومن خلال التداخل النقدي بين ما كتبه كليطو وما كتبه جيمس مونرو في «فن بديع الزمان الهمذاني بوصفه قصة تشرد» يتضح لنا أن المقامة هي فن القصة القصيرة، ولكن في فجرها الأول، وأنها إما كانت على لسان الكاتب نفسه أو على لسان راوٍ يروي عنه الكاتب، وأن

موضوعاتها تبدو كعِظَةٍ أخلاقية لكنها في حقيقة الأمر قصص إنسانية، بعضها احتلت البطولة فيه الرحلة أو المكان أو الحج وطقوسه أو الاختلاط الجنسي أو غيره، وأنها حملت ثقافة كاتبها وانتماءاته الفكرية والمذهبية.

الأكثر دهشة من المقامة وحيلها في السرد هو كشف محررة الكتاب جوليا براي عن أن الثقافة العربية عرفت القصة العلمية والطبية التي اشتهر بها بعض الكتاب مثل «التنوخي» الذي جمع ما بين الكتابة والطب، وسعى إلى نشر ثقافته عبر قصص وحكايات تفننت في عرض ثقافته الطبية، عبر شخوص وروايات وحالات طبية متنوعة، لكنها لم تكن تتمتع بالحبكة الدرامية الواسعة، فضلًا عن تمسكها بستار الحقيقة عبر الأسانيد والمشاهدات.

من الصعوبة القول بأن المخيلة العربية هي التي وضعت أسس كتابة القصة والرواية والمقال في الحضارة الإنسانية، لكنها وضعت إضافاتها على هذه الفنون، منتقلة بها من الخطابة والإنشاد الشفاهي إلى التدوين، والتفكير عبر الكتابية لا الشفاهية، وهو ما جعل العصر الحديث يفتتح أعماله بإنشاء المطبعة، وتسهل عملية النشر، هذه الآلية التي نقلت الثقافة الإنسانية من الأدب الشعبي المجهول المؤلف إلى الأدب الحديث المعلوم

المؤلف وعصره وأهدافه ومذهبه الفكري، ومن ثم لا تعود أهمية كتاب (أشكال الكتابة والتعبير في القرون الوسطى) إلى كونه يرصد المسارات التي اتخذها الفكر الإبداعي العربي، ولكن لأنه يوضح كيفية انتقال الفنون الإنسانية من العصور القديمة إلى العصور الحديثة، وهي مرحلة النزول من السماء للسير على الأرض، والتحول من البطل الملحمي إلى البطل المعنيّ بنقد بخل الأثرياء والدفاع عن هويته وقِيمه في مواجهة أفكار الشعوبيين والعجم.

 

المصدر: "مجلة الفيصل"







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي