الفيلم الفلسطيني "أمور شخصية".. استعادة الشخصيات لإنسانيتها

2021-09-07

 

سليم البيك*

لن نسأل هنا: ما الذي يجعل فيلماً ما فلسطينياً (في ذاته وليس في صناعه)؟ بل السؤال: ما الذي يجعله كذلك لدى مشاهدٍ أجنبي دخل صدفةً إلى قاعة غير عابئ بعنوان الفيلم، ولا باسم صانعه؟ ومنه أخرجُ بسؤال أناقشه هنا: ما هي صورةُ الفيلم الفلسطيني، أو الصورة المتوقعة من الفيلم الفلسطيني، وفيه؟

في معظم هذه الأفلام، سيدرك المُشاهد العارف نوعاً ما بالسينما من ناحية، وبالعالَم من ناحية أخرى، سريعاً، أنه أمام فيلم فلسطيني.

لا ضير في ذلك، بل من الجيد أن يكون لمجموعة أفلام هوية تميزها عن غيرها، تبعاً لأسلوب أو لموضوع أو غيره، فتشكل تياراً ما، وذلك يُفتَرَض بأن يكون بقرار واعٍ لصناع الأفلام، باختيارهم له لا بانجبارهم عليه. أما الانجبار، فهو حالة أفلامٍ عديدة لفلسطينيين.

لا يختار هؤلاء الهويةَ بقدر ما تختارهم هي، متى أرادوا صناعة فيلم بشخصيات فلسطينية. الأمر أشبه بحكاية فرانكشتاين، الوحش الذي صُنع (رُكب) فخرج عن سيطرة صانعه، كان الوحشُ تابعاً لفرانكشتاين فصار مستتبِعاً له. الطبيب فرانكشتاين هو صانع أفلام فلسطيني، أما الوحش فهو الصور والقصص التي قدمها هذا الصانع، كتصوير لهوية فلسطينية، ركبها وظل يركبها إلى أن أسرتْه وحدت من سيطرته، فخرجت عنها.

تحكمت به وصارت إجباراً عليه، متى أراد الصانعُ هويةً فلسطينية لفيلمه. أخيراً، صار الفيلم الفلسطيني مُعرفاً بسياقات تتسيدُها حواجز وجدران وجنود، ومسلحون ملثمون، وغيرها مما يسهل استحضاره.

ألا يكون ذلك طبيعياً، متوقعاً، وما دونه هو المستغرَب؟

لأفصلَ قليلاً في إجابتي النافية، يجب أن لا يكون ذلك طبيعياً ومتوقعاً حين يتحول إلى «وحش» يخرج عن سيطرة صانعه، وحين يصير قانوناً شاملاً ينفي ما دونه فتتضاءل الابتكارات السينمائية، وحين يصير سبباً لاستسهالات صناعة الفيلم الفلسطيني، بموضوع متفق عليه ضمناً، وحين، أخيراً وتراكمياً، يكون سبباً في رداءة (نسبية) سردية مكررة تعم هذه الأفلام (مع استثناءات محدودة).

وما الذي يعنيه هذا الكلام في هذه الأفلام؟ إن هويتها، الأفلام، تتحدد بالإسرائيلي، بل بصور الإسرائيلي وتمثيلاته، وبأسى أكبر أقول: تتحدد، في قدرٍ كبير، بإنشاءات الإسرائيلي، بعمارته، بزيه، بسلاحه، بجماداته. تضاءلت، بذلك، الهوية الأصلانية في الأفلام الفلسطينية بتمحورها حول البشاعة الكونكريتية التي أنشأها المستعمِر الإسرائيلي.

صار الفلسطيني في فيلمه نقيضَ الإسرائيلي، وحسب، صار وجوده مبرراً بوجود الآخر، فلا وجود له خارج السياق والتبرير الإسرائيليين. فتكون للشخصيات الفلسطينية تطورات، ضمن الفيلم، بما يرسمه وتحدده تلك التمثيلات للإسرائيلي، كأنه لا مبرر إنساني للفلسطيني، كأنه لا مبرر وجودي له سوى بكفاحه مقابل تلك

التمثيلات، وهو كفاح مشروع بل ضروري (وطبيعي ومتوقع) بل لا بد من تصويره سينمائياً، فليست المشكلة فيه، بل في خروجه عن السيطرة في العملية السردية للسينما الفلسطينية، بطغيانه.. بنفي ما دونه. كما أن المشكلة لم تكن في صناعة الطبيب فرانكشتاين لكائنه، بل في تحول الكائن إلى وحش بخروجه عن السيطرة.

تحجيم الشخصية الفلسطينية

وبالتالي، تكون المشكلة في تحجيم الشخصية الفلسطينية، في تحديد طبيعة حياتها، في فرض الكفاح عليها (وبصوره المباشَرة المستهلَكة التقريرية اللاإبداعية) وفي كل تفاصيل تلك الحياة، وأساساً، في محو أي مبرر لهموم تفصيلية ويومية وفردية للفلسطيني، تكون بمعزل عن «الصراع الوجودي» الجمعي، فتكون هذه التمثيلات مبررَ الوجود الفلسطيني، الذي في يومياته كلها، لا يكون حاضراً كإنسان بمعزل عن المصنوعات الإسرائيلية، يكون الفلسطيني هنا (بتلك الصورة دون غيرها) لأن الإسرائيلي هنا (في كل صوره).

فلا نجد، أخيراً، حكاية إنسانية فلسطينية صرفة، ولا علاقة حب بين اثنين دون «مبررٍ» لها يكون جندياً إسرائيلياً، ولا زواجا يرغب طرفاه بالطلاق ببساطة، دون استحضار «غير سردي» للاحتلال. كأنه لم يكن للفلسطيني وجود قبل استعماره، كأن المبرر لوجود الفلسطيني هو تناقضه (وهو تناقض ضروري) مع إسرائيل.

ليست الأمثلة، حول المذكور أعلاه، طاغية على عموم الأفلام الفلسطينية، إنما، أتى الذكرُ لأُشير إلى الاستسهال في تناول الهوية الفلسطينية لدى صناع أفلام فلسطينيين، والحقيقة أن الهوية (كما يظنونها) هي التي تتناول أفلامهم وتبتلعها، كأن يقول أحدنا: أريد أن أصنع فيلماً فلسطينياً، لنركب العناصر إذن، لنأتيَ بجندي إسرائيلي يصرخ، لنأتيَ بمستوطن مسلح، لنأتيَ بقافز فوق الجدار، بأسير سابق، بمقاوم ملاحَق، وغيرها مما يظن صانع الأفلام أنه يختارها، لا هي تنجبر، تفرض ذاتها، متى أراد (مستسهلاً) أن يكون فيلمه فلسطينياً.

بذلك يكون الصانع عينه، قد حددَ الهوية الفلسطينية لفيلمه بما يتوقعه صاحبنا الذي دخل صدفةً إلى قاعة، بداية المقالة، غير عابئ لا بعنوان الفيلم ولا باسم صانعه، ولا بأي تمايز وابتكار في ما يمكن أن يكونه الفيلم الفلسطيني.

صناعة السينما الفلسطينية

لدي مثلٌ هنا، نقيض للحالة المذكورة حتى هذا السطر، هو فيلم مها حاج «أمور شخصية» 2016. الفيلم الأول لمخرجته التي لم تبحث في ما أفترضه «دليلاً لصناعة الفيلم الفلسطيني» كي تكتبه، ولم تسعَ لتصوير ما يتوقعه صاحبنا غير العابئ بشيء والداخل صدفةً إلى فيلم، ولم تسعَ لتلقينه، بالنص والصورة، فلسطينيةَ فيلمها، من أول مشهد فيه.

أتت مها حاج بحكايةٍ لفلسطينييها استقلاليةٌ تامة، ركزت في شخصياتها، في كينونتهم وإنسانيتهم، أبقت لشخصياتها إنسانيتها، رسمتهم (كتابةً وتصويراً) دون اعتبار للإسرائيلي يفوق اعتبارها لهم. مبررهم الوجودي يكمن فيهم لا في مؤسسات الاحتلال وأفراده، ليسوا مرآة، ليسوا وسيلة لإظهار بشاعةٍ (مستحقة وبينة) في الإسرائيلي، بل هم الغاية، هم الفيلم.

أعطت للحكاية الفلسطينية تفاصيلها المحلية الوطنية وكان الاحتلال ظلا في الخلفية، كما يجب أن يكون (إيليا سليمان، في «إن شئت كما في السماء» أغاظهم بتجاهله إياهم، بمحوهم إلا من مشهدٍ زادهم امحاءً وغيظاً).

كان الاحتلال في فيلم مها حاج مُهمشاً كما يكون الفلسطيني في أفلام الاحتلال، وأتى ضمن المَشاهد الأخيرة، في صيغته وموقعه الطبيعيين، في مشهد عابر يمكن حذفه كما يمكن الإبقاء عليه، فليس للإسرائيلي هنا مكانة مركزية في السردية، بل تتمة واقعية محجمة.

حضور الإسرائيلي كان في حدوده، تحكمت به المخرجة ولم يتحكم هو فيها، صورته ضمن حدوده الضئيلة التافهة مقابل حضور الإنسان الفلسطيني ويومياته التي تستقل، في معظم تمثيلاتها، عن صورة الاحتلال.

في «أمور شخصية» مركز الفيلم هو الإنسان الفلسطيني، المَحلي ابن الناصرة، لا الكونكريت الإسرائيلي، الحكاية تتمحور حوله، وما عدا «أموره الشخصية» يكون تابعاً وثانوياً وتكميلياً، لا يكون هو وأموره الشخصية تابعاً للغريب على أرضه، حضور الشخصية هنا يكون لذاتها لا لذات الإسرائيلي. ليست شخصياتها، سلوكاً وكلاماً، رد فعلٍ لا أكثر، على وحشية الاحتلال (أناساً وأشياء).

في الفيلم لا يتحدد الفلسطيني سلباً، لا يكون الصورة النقيض عن غيره، فلا يكون الفيلم الفلسطيني بنقطة ارتكاز هي إسرائيلية. في الفيلم نشاهد الفلسطيني بوجوده التام، لا مُبرراً بالاحتلال، هو حاضر قبل الاحتلال وخلاله ومن بعده.

لا نشاهد الفلسطيني هنا من خلف ظهر الإسرائيلي، ولا يكون همه الوحيد النجاة، ولا يكون إما بطلاً أو ضحية (بفعل الإسرائيلي دائماً) فللفلسطيني قبل ذلك كله إنسانية سبقت الحالة التي أوجدها الاستعمار عام 48، لا تتحدد هويتُه بها، ولم يبدأ حياته عامَها. كان للفلسطيني، دائماً، حكايات تتخطى الاستعمار/الاحتلال إلى إنسانيته.

فرض الاحتلال ظروف حياة على الفلسطينيين وانتشل منهم استيعابهم وإدراكهم لإنسانيتهم. مع الزمان تمدد هذا الفرض (بفعل صانعي الأفلام) إلى السينما، و«توَحشَن». أعادت مها حاج في فيلمها «أمور شخصية» للفلسطيني إنسانيتَه. هنا يكون الكفاح وجودياً وجذرياً ودائماً، لا ظرفياً ومتوقعاً.

 

  • كاتب فلسطيني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي