تركوا حياةً لزوّار الليل

2021-09-03

مقطع من "الحفل" لـ شفيق عبّود (لبنان)، زيت على قماش، 1974

عباس بيضون*

 

غيم

 

تراه خرج من عينيّ

أم أنه خوفٌ انتشر في الهواء

بعد أن كان جليداً

ربما هو فكرة ملأت المكان

ولم تعد حجراً أو عدْوى

أو جاراً مريضاً.

 

وصل هذا التهديد منذ ساعة

إنه يسقف السماء

التي في صمتها الكبير

تستمرّ في تنقية الفراغ

في تصفية الغضب

بالرقّة التي تصقل بها الخطر

بالنظرة التي تنقل إلى الأبدية

في لحظة واحدة.

 

المَطارق غير المسموعة تعمل في الوقت

ما ليس سوى البداية

كان مجرّد اسم

يبقى وحده ممدّداً في السرير

كان نقطةَ دمٍ

توزعت بين المزارع

جريمة هربت من أربعين عاماً

وفكرة صغيرة هربت معها

الآن يمكن نقل ذلك في كتاب

يمكن لوسواسٍ نام مع الجميع

أن يغدر قبل أن يختفي

لقد حمل تلك السنة كقبر مفتوح

وباعها على طول الطريق

الآن يطلب فريسةً

الآن توشك أن تثب

لا يمكن لذكرى أن تكون مضلّلة أكثر

إذ يكذب القلق

قبل أن يقفز إلى المجهول

إذ يكون في المرّة الثانية

أشد مضاء

يعود أثقل

وأقلّ عبرة

وبالطبع سيفتك في هذه الفوضى

سيقع مجدّداً على البداية المتنقّلة

بالطبع سيضرب كفراغ صافق

أو فجوة مسنّنة

لقد كان جارّاً كلّ هذه السنين

ولم يكن وداعاً واحداً

أو ماضياً فحسب

ولم نعلم أننا نربّي سيفاً

وأنّ أمامنا ما سيعود من الخلف

إذ كان يمكن أن نرتطم بخيالنا

بالحماقة التي تركَها للعبنا

منذ أعوام

قدرُ طفلٍ وأعمى

وهذا أوانه

إننا نبدأ من الغيم.

■ ■ ■

قرص أبيض

 

لم تكن آخر ليلة

مع ذلك فإن ساعةً واحدة تقف أمامي

وتمنعني من الخروج

ما دام لم يعد أمامي

سوى قرص أبيض

وخزانة من الخوف

المنوّم الذي يعمل هذه السهرة

في الأشياء التي تُحيط بي

قتلَ تقريباً المنضدة

والأريكة

ولا يزال على شاشة التلفزيون

مغرّداً بجناحين آليّين وساعة رقمية

والأرجح أنه ينشر فيَّ صمتَه السّام

الأرجح أنه يحيلني إلى عددٍ

أو قرصٍ أبيض

يقع شرشفاً على السرير

أو كتاباً على المنضدة

إنها الساعة الواقفة

وستبصقني بالتأكيد

على فراش مسطّح

على صباح مسطّح

مشلول بالمنوّم الذي يُطبق على أوّله

فاقد شمسَه

وبادئ نهاره بعواء أغبَش

سيطردني إلى الأمام ساعتين أو ثلاثاً

سيُرسلني نائماً في صندوق

بوسائد كثيرة عوضاً عن الأحلام

وبرسالة واحدة

بقرص واحد

لا يزال يعمل في عدّ الأشياء

مرّة بعد مرة

وسادة على وسادة

لا يزال يتقلّب يميناً وشمالاً

مُحوّلاً السرير إلى علبة دواء

أو إلى مسطّحٍ للوقت

ما أفعله في سريري هو الوقت

عيناي مغمضتان على دقائق

ليس من ذكرى خلف الجفون

ليس من كلمة

هذا الصباح لم يصل من حياةٍ ما

لم يكن وراءه أي بارحة

فقط نهارٌ مسلوق ترك جلده هناك

وصلَ تاركاً في التلفزيون

الحبّة التي بقيت على الشاشة

نشرة أخبار بلا وقت

جاثمةً فوق السرير

حيث لا أزال قرصاً أبيضَ

لم يخرج من النوم.

■ ■ ■

الأربعة

 

لم يصلوا في نفس الساعة

ولا من نفس المكان

لم يبقَ واحدٌ جنبَ الدراجة

لم ينهض واحد من تحت السيارة

لم يكن هناك فخذٌ مكسور

ولا غيبوبة تحت الأدوية.

 

كانت الأرض صلعاء وهم يغادرونها

رحلوا مع ذكرياتهم

لم يتركوا شيئاً للعصافير

رفعوا خطواتهم عن الأرض

غسلوا بصماتهم

تركوا فقط حياة لزوّار الليل

حياة من شهور أخيرة

لمَن يتأخرون عن المائدة

لمَن لا تكفي عظامهم

لمزيدٍ من السير

حياة يمكن أن تكون حائطاً

يمكن أن نرسلها إلى ما وراء الساعة

لتنتظرنا هناك

نريد أن نحْلق زوائد عن ظهور الأيام

لن يكون ذلك سوى مَن نستدعيهم

ليشهدوا لنا

سوى ما أمكن أن يحدث عند الفجر

مع النواقص اللازمة

وكلّ ما بقي من الغنيمة

بدون أن يكون جائزة

وبدون أن يكون سوى ما وقف لحظة كذكرى

قبل أن يختفي

سوى ما محوناه أربع مرات

قبل أن ينبثق

ما أعدنا حكايته مرّات

قبل أن يعود شمعةً

وقبل أن يعلق باللعاب

أو يتراجع في الهواء ليتذكّر

ماذا يبقى تحت المحو العاشر

وماذا يتبدّد للمرّة الأخيرة

في بوّابة الشتاء

حيث يمكن أن نسمع من تحت الطبقات

الاسم المفقود يُعاد فقدُه

الصوت الطارد للأشياء

والكلام المطرود من العالم.

 

آمركَ أن تعود إلى الأرض

آمركَ أن تكون أبي

منذ أن تخرج من عيني

منذ أن تنطفئ في دمي

ليس لك أن تبقى تحت السيّارة عاماً آخر

أو تضلّ عينين زرقاوين

من فوق السحاب

ليس لك أن تزحف كصوت

من فوق الصحراء

ولا أن تسقف الأعالي

ليس لك أن تكون فوق نفسك

وفوق الجميع

إلى أن تكتسحك الموجة أو ترميك العجلات.

 

أن تكوني وحدك في المخزن

أو تغيبي تحت بخار الدم

وتحت الأمصال

أن تنفذي من هذا العمر بشهقة

وأن تكوني نسمة بعد الصباح.

 

أن تكون فقط نثراً يلتهم الجوارح

أن تكون غراباً في الصدر

وأن تسقط كالسبحة من فوق الكتاب.

 

لن تعودي حوراء إلى هذا البيت الصيفي

وإلى العائلة الأخرى

ماذا لو رموك بأغنية

ستكونين غريبة في العودة

غريبة في ما وراء الحياة.

 

الأربعة لم يصلوا في نفس الساعة

ولا من نفس المكان

جلبتهم القافية إيّاها

ووقعوا في الضيق نفسه

الأربعة الذين قلّمتهم من دمي

وسّدتُهم نفس الفكرة ونفس الصوت

جمعتهم حيث زالوا عشرين مرّة

واختفوا كلّ يوم

كانوا لي بهذا النسيان المتكرّر كلّما استيقظ

وكلّما وقع عامٌ

إنه ينقلنا بأصوات المختفين

وفي عربات الأعياد

إلى حيث يطبعنا سويّةً مع الأربعة

إلى حيث لا وقتَ لجمعهم من تحت الدرّاجة

ومن فوق الرصيف

لا وقت ليحيا الفخذ المسكور

ليكون هناك رقادٌ تحت الأدوية.

 

  • شاعر وروائي من لبنان

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي