
أ.د. دريّة كمال فرحات *
«خادمات المقام» رواية للكاتبة منى الشّمري وقد صدرت عن دار الساقي في طبعتها الأولى 2021، وللكاتبة العديد من النتاجات، ترصد قضية اجتماعيّة ترتبط بحقبة زمنيّة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي في جزيرة فيلكا.
تتعدد أنواع الرّؤية السّرديّة بين أشكال ثلاثة، الأولى هي الرّؤية من الخارج وتعني قلّة معرفة السّارد بالأحداث التي جرت، أمّا الرّؤية المتلازمة ففيها تتساوى معرفة السّارد مع ما خلقت الرّوائية من عالم تخيليّ تكوّن منه روايتها، والرّوائي لا يظهر بشكل مباشر في بنية الرّواية، إنّما يكون خلف الرّاوي، وهذا الرّاوي ما هو إلّا شخصيّة من ورق كما يقول رولان بارت.
فظهر الرّاوي العليم في الرّواية، ينقل لنا الأحداث، ويخبرنا عمّا يجري وما يحدث. فالرّاوي هو من يروي ويحكي ويخبّر، ولا يمكن أن تكون القصة من دون راوٍ يسرد. فكان موقع الرّاوي في هذه الرّواية خارج كون القصّ غائبا عنه. والرّاوي في «خادمات المقام» يسرد ويصف ويتيح للشّخصيّات أن تحدّث نفسها، وتتحاور.
وعليه فالكاتبة تستند إلى الرؤية من الخلف، واستعمال ضمير الغائب، وهذا ما يجعل السّارد موضوعيًّا لا يشارك في الرّؤية من الدّاخل، إنّما يقف موقف المحايد من الأحداث، وتكون لديه المعرفة المطلقة عن الشّخصيّات خارجيًّا ونفسيًّا، فتبين لنا صفات خادمات المقام من ماريا، وأم وحيد، ومنيرة ومن معهن من عذبة/ نجيبة، والردادة زبيدة، ولونا اليهوديّة وسندس.
وقسّمت الكاتبة روايتها إلى ثمانية وثلاثين قسمًا، يسرد لنا فيها الرّاوي عن الشخصيّات ويعرّفنا عليها، متنقلّا من قسم إلى آخر من دون أن ينتهي الحدث أو الموقف أو الخبر، إنّما يكتمل في القسم الثاني، وهذا ما يسهم في ربط أجزاء الرّواية، وتعلّقها بمبدأ السّببية.
الرواة والأقسام
وإذا قامت رواية منى الشّمري على الرّاوي العليم، فإنّها استعانت براوٍ آخر، وعادت إليه ليكون فاتحة كلّ قسم من الأقسام، وليشكّل بعدًا دلاليًّا يسهم في التّشويق لمعرفة الحدث، وما هذا الرّاوي الخفيّ إلا الأديب العباسي الجاحظ، فكانت كلماته فاتحة لعدة أقسام من الرّواية، فتشكّل العبارات المقتبسة عنصر توقّع لما سيرد من أحداث، وفي الوقت عينه عنصر تشويق. ولم يقتصر حضور الجاحظ وأقواله في افتتاح الأقسام، إنّما أيضًا
برزت في حوارات الشّخصيات، خصوصًا مع اقتناع «عذبة» -إحدى بطلات الرّواية- بما يقوله الجاحظ: «لا تذهب إلى ما تُريك العين واذهب إلى ما يُريك العقل»، ولم تكن هذه الاقتباسات من باب التّزيين، إنّما ارتبطت بما ذكرته الكاتبة في بداية الرّواية «الخرافة جرثومة العقل لا يُشفى حاملها إلّا بالموت»، وفي ذلك تترك الكاتبة للمتلقي مساحة كي يُشارك في الرّبط بين أحداث الرّواية، وصولًا إلى اكتشاف الغاية التي نخرج منها في الرّواية.
سرّ الغريقة
تصوّر هذه الرّواية العلاقة بين العقل والأوهام التي تعلق في الأذهان، وكان للمرأة الحضور البارز فيها، فكانت هي المحرّك للأحداث وهي المحور الذي دارت عليه فكرة الرّواية، وتنوّع حضورها بين خادمات للمقام، فيهن الأمّ الملتاعة لفقدان ابنها، والمرأة التي تنتظر أن يمنحها الله نعمة الإنجاب، ولونا اليهوديّة التي تمثل من تنتمي
إليهم فنتعرّف عادات وتقاليد هذه الفئة، أو من ماريا القادمة من أفريقيا وما تحمله من جينات لهذه البيئة، أو من فتاة هاربة من مصير فُرض عليها، فوجدت في جزيرة فيلكا عند الرّدادة زبيدة الملاذ إلى حين أن يفرجها الله وتتخلّص من مشكلتها.
ولم يكن الرّجل غائبًا عن الرّواية، لكنّ حضوره ارتبط بالحدث الذي يدور حول شخصيّات الرّواية الأنثويّة، فنجد فهد زوج منيرة التي تتوق إلى الإنجاب، وخالد الباحث عن الحبّ مع عذبة التي تبادله الحبّ لكنّ حكايتها تقف حجر عثرة في وجه هذا الحبّ.
وأيضًا عزرا الذي يدور في فلك ابنته لونا اليهودية. ومهدي القادم من إيران ليكشف سرّ الغريقة التي وُجدت على شاطئ فيلكا، وفي أحشائها جنين ينتظر النجاة. وكان العثور على الغريقة هو الحدث الذي افتتحت فيه الكاتبة الرّواية، والانطلاقة للتعرّف على مقام الخضر وعلاقة النّاس به.
الصراع
ومع شبكة العلاقات التي حاكتها منى الشّمري بين شخصيّات الرّواية، استطاعت ان تنقل واقعًا اجتماعيًّا لحقبة زمنية ماضية، ولم تكن الغريقة مريم إلّا ضحية لتفكير المجتمع السّائد في الخمسينيات، ومع كلّ شخصيّات الرّواية تضع الكاتبة اليد على الجرح لما يعانيه المجتمع من قيود وثغرات، فتوّلد الحدث الذي يسهم في نمو الحبكة الفنيّة وصولًا إلى ختام الرّواية التي أرادت عبرها الكاتبة أن تظهر نهاية الجهل، وإن ظلّ الصّراع بين الجهل والعقل قابلًا للتمدّد والاستمرار.
وقد استطاعت منى الشّمري في رواية «خادمات المقام» أن تقدّم لنا رواية تتميز بسارد عليم رسم أحداث الرّواية، معتمدا التّشويق وشدّ انتباه القارئ، يلهث بين ثنايا المقاطع ليعرف مصير كلّ شخصية تعرّفنا عليها، وكان ذلك بأسلوب جميل ودفق عاطفيّ، مع اعتماد تقنيات السّرد والحوار والوصف ووحدة الحدث والعمل السّاري في الرواية، مع إبداع الكاتبة في رسم الشّخصيات.
ثروة لغوية
وإذا وضعنا الكاتبة في ميزان نحكم عليها من حيث الإجادة، فإنّها أجادت في تقديم ثروة لُغويّة ترتبط بألفاظ تراثيّة قديمة، فأحيتها وشرحتها للتّوضيح، إضافة إلى تضمين روايتها ما له علاقة بالألعاب القديمة وعادات عديدة منها الزّار وما كان يجري في «القرينية» في جزيرة فيلكا.
وفي ذلك إغناء للرّواية ورد في سياق الحدث من دون تكلّف أو اقحام من الكاتبة، لكن قد نرى أنّ الكاتبة عبر راويها تلجأ إلى تقديم معلومات تاريخية محدّدة فيها سبب تسمية جزيرة فيلكا بهذا الاسم، فنشعر عندها أنّنا شطحنا إلى البعد التّاريخيّ.
وفي موقف آخر مع «عذبة» التي تنشد العقل دائما تقع فريسة أوهام أحيانا، فترى أنّ تقديم حليب الأتان (للوليد) قد يؤثّر فيه فيكتسب صفات هذا الحيوان، ولعل ذلك بعيد عن طبيعة هذه الشّخصية التي عرفناها قارئة مثقفة تكتسب بعض العلوم.
ولعل التّشويق المهم في هذه الرّواية هو موضوعها الذي جذبني، فجعلني أبحر فيها، فيشدّني الحنين إلى ربوع قضيت فيها صباي، وتنقّلت بين كلّ زاوية من الزّوايا التي أشارت إليها الكاتبة في الرّواية، فيشدني الحنين إلى بحر فيلكا ورملها وحتى منطقة (القرينية).