التراث الحي… القراءة والصياغة

2021-08-26

جمال العتّابي

يضم مأثورنا الشعبي كنوزاً فنية ضخمة، مفتاحها بيد الفنان المعاصر، وريث الشخصية الفنية العريقة، وليدة الحضارة التليدة، والمفاهيم الإنسانية، والمثل العليا، المستقرة جميعاً في أعماق ما يعرف عند علماء النفس باللاشعور، يرتبط إكتشافها بالإنتاج الواعي الخلاق.
في المأثورات الشعبية تقاليد وعادات وأمثال وقصص وحكايات وأساطير وخرافات، وملاحم وغناء وموسيقى، ورقص شعبي، وألعاب وألغاز، ونوادر وفكاهة، كل هذا الكم من التراث، يشكل مادة حية في إخصاب الفنون المعاصرة، كذلك السير والملاحم الشعبية التي تفتقد المؤلف، لكنها تمثل نبضات وجدان الشعوب عبر الأجيال التي مرّت بها، انها تتوافر على عنصر أساس، للإفادة منها في تطوير الفنون المعاصرة، كانت محاولة أحمد شوقي موفقة عندما كتب (عنترة) إذ تحولت الشخصية التاريخية، عنترة، وهو فارس وشاعر عربي جاهلي، من أصحاب المعلقات، إلى شخصية فنية حية، وبذلك لم تلتزم (عنترة) شوقي، السياق أو الصدق التاريخي، قدر إلتزامها الصدق الفني.
يصور الكاتب الروسي تولستوي أثر الحكايات الشعبية، وهي في مقدمة المأثورات الشعبية أبلغ تصوير حين يقول : ان حكاية شعبية تبتهج بها عشرات الاجيال، أو قل ملايين الصغار والكبار، لأكثر أهمية وأعظم فائدة من كتابة رواية أو قصة، يفهمها عدد قليل من القراء والنخبة، يتداولونها ثم تنسى إلى الأبد. ولدينا من الحكايات (ألف ليلة وليلة) التي تركت أثرها الواضح على الإنتاج الفني الغربي قبل العربي، إذ وجد فيها أهل الموسيقى عندهم، مادة موسيقية خلاقة، فكانت (شهرزاد) وأوحت لكتابة لكتابة القطعة الموسيقية العذبة الرائعة(حلاق أشبيليه) للموسيقار الإيطالي روسيني (1792-1868) ونهل منها كتّاب الفن القصصي للأطفال، وبهذا الصدد نود أن نذكّر بقول الكاتب وفيلسوف الثورة الفرنسية فولتير (1694-1778) انه لم يقدم على كتابة القصة إلا بعد أن قرأ (ألف ليلة وليلة) أربع عشرة مرّة، وتمنى الروائي الفرنسي ستندال(1783-1842) أن يمحو الله من ذاكرته (ألف ليلة وليلة) حتى يعيد قراءتها، فيستعيد لذة القراءة ودهشتها.
ان نظرة تأملية متأنية في كل ما صنعته اليد العراقية والعربية الماهرة من أعمال فنية جميلة، وما إصطلحنا عليه بالمأثور الشعبي، تقودنا إلى الكشف عن حقائق جوهرية تتمثل بأن الجانب الأكبر من تلك المأثورات، يمثل شكلياً، بل ويناظر ما ندعوه اليوم ب(الفنون التشكيلية) ان مجتمع الأمس كان مشاركاً – بقدر وآخر – بتقنيات فنونه التشكيلية، بل ومتصلاً إتصالاً حميماً، بدءاً بالقروي البسيط الذي يضفر من الصوف الملوّن جديلة لحزامه، حتى الفنان المحترف الذي يخط ويزين ويلوّن بالجميل المتوازن من الزخارف والتذهيبات أطراً لمصنوعاته.
ان التحولات الكبرى في حياة العصر، عكست الصورة، فتحول الحرفيون إلى فنانين تشكيليين، وصار الفن عملاً ذهنياً يعبّر عن تعقيدات الحياة، كما يحمل هموم الناس، وآمالهم وأحلامهم، فضلاً عن مشاكلهم الحياتية والوجودية، وهكذا فقد عفويته الطبيعية، وما يتصل بها من جماليات التكوين والتأليف والصياغة، فيصبح فكراً جمالياً محضاً.
غير ان مدّ الحضارة السريع، وتقنياتها الحديثة، سرعان ما أفضى إلى تراجع دور الفنون التراثية في حياة الإنسان الحديث، وإستبدلها بمنتجات الآلة الحديثة المتقنة الصنع، في هذا المفترق، نشأت عقدة النقص من (الماضوية) وبحكم العلاقات الحضارية الجديدة، ينظر البعض إلى الأعمال الفنية التراثية كرموز للتخلف، وصار على هؤلاء أن يثبتوا سلوكهم التمدني الجديد، في التخلص من آثار ذلك الماضي، ما دامت تشير بأصابع إيحاء إلى الرجعة الزمنية.
القفز المتعجل، يفقدنا الكثير من جوانب تراثنا الحي، وبالتالي يفقدنا قدرة الرؤية العلمية في دراسته، والإحتفاظ بنصوص وشواهد أصيلة منه، وصولاً إلى تقييم علمي لتلك المراحل من خلال الشخصية أو الهوية الوطنية للتراث. ورفع مستوى الدراسات التخصصية في الجامعات ومراكز البحوث التي تقود إلى بناء المجموعات الوطنية المنظّرة، أو تأسيس المتاحف الكبيرة.
ومع إعتقادنا بأن الزمن قد فات كثيراً، وهُرّبت آلاف النماذج الأصيلة من تراثنا الشعبي إلى خارج الوطن، وإندثرت آلاف مثلها بفعل الجهل البالغ بقيمها وجدواها، إلا ان الأوان لم يمت كلياً، وإنما غابت نعمة اليقظة والوعي بأهمية الحفاظ على التراث ودراسته. فهو حجر الأساس في البناء الوطني، بإستعادتنا له نستكمل وجودنا، ان تاريخ الحضارات الإنسانية، يقدم لنا أكثر من دليل في نشوء الحضارات، فأوربا الحديثة نهضت في القرنين الخامس عشر، والسادس عشر عبر قراءة جديدة لنصوص الإغريق، أكتشفوا فيها الإنسانيات، ومن ثم الفلسفة الإنسانية، التي ما تزال حتى الآن من محركات تاريخهم، ويكفي ان نذكر أثراً خالداً لتولستوي (الحرب والسلام) ان كل تجدد في حياة أمة، أو ثقافة، هو تطلع نحو مستقبل مبتكر، يربط القديم بالجديد، والآتي بالماضي هذه العلاقة، هي التي تحفظ للشعوب هويتها، وللثقافة وحدتها.
مثل هذه الأمانة، نعتقد بأن المتاحف ليست المضان الوحيدة التي تعارف الجمهور على إعتبارها مناهل التراث، ومواطن الحفاظ عليه، وإنما هو المجتمع ذاته، حين يبلغ وعيه الدرجة القصوى من وضوح الرؤية في تقييم تراثه، ومحضه المحبة والإحترام، وهو المدينة والقرية والبادية، وهو ساحة الحياة اليومية بكل إمتدادها الزماني والمكاني، وكل بقعها الداكنة والمضيئة أيضاً.

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي