تاجر مخدرات يقود إمبراطوريته من غرفة نومه

2021-08-21

 عالم خفيّ لتاجر مخدّرات ليس له مثيل

طاهر علوان*

ربما تبدو السيرة الذاتية عبر الوثائقي فيها الكثير من الإجابات على الأسئلة التي ترتبط بالشخصية وأفعالها وحياتها الخاصة وهي في الواقع نوع من الملامسة عن قرب لذلك البروفايل الغامض والمخفي والذي جعل من الشخصية ما يؤهلها لكي ننشغل بسيرتها الخاصة، وهو ما يبدو جليا في فيلم “الرقائق اللامعة”.

ما زال فيلم “الرقائق اللامعة” للمخرجين إيفا مولر وميكائيل شميت، الذي يتناول السيرة الذاتية عبر الأسلوب الوثائقي، يتصدّر المشاهدات من خلال الملايين ممن شاهدوه من حول العالم مخلفا وراءه أصداء جديرة بالأهمية.

بكثير من العفوية وملامح الوجه الطفولي يمكنك تتبع السيرة القصيرة زمنيا والطويلة بأحداثها والتي ترتبط بأصغر وأشهر تاجر للمخدرات في تاريخ ألمانيا وقد أصبح مليونيرا مستخدما غرفة نومه فقط مقرّا له.

الولد الهادئ

ها هو بعد انقضاء مدة السجن وقد عاد ليدخل ذلك المربع الذي ليس إلا غرفته الضيقة التي قرر فيها أن يلتحق بالقاع غير المرئي والحياة الخفية للجريمة بكل أشكالها، وصولا إلى المتاجرة بالمخدرات، وبهذا كان دافع الاكتشاف محركا كافيا مدعوما بفضول التعرّف على الخفايا، وذلك ما قاد الشاب ماكسميليان شميدت للولوج إلى ذلك العالم الخفي للتعرف على عالم المتاجرة بأنواع المخدّرات.

الفيلم مبني على التفاصيل واليوميات التي كان يعيشها الشاب وكيف بدأ التوغل في عالم الجريمة المثير

لم يكن ماكسميليان وفق سيرته بحاجة إلى موزعين يعملون لصالحه ويتنقلون في الضواحي لإيصال الطلبيات، بل اعتمد على البريد الألماني وسيلة للوصول إلى زبائنه ثم البريد الدولي السريع للوصول إلى مشترين من حول العالم.

يُبنى هذا الفيلم على التفاصيل واليوميات التي كان يعيشها ماكسيمليان نفسه وكيف بدأ التوغل في عالم الجريمة والحوارات اليومية مع أشخاص هم كالأشباح بأسمائهم المستعارة والأجواء الغامضة، التي يتفشى فيها قراصنة الإنترنت وتجار العملة الرقمية البيتكوين التي كان ماكسي يتعامل بها لدرء الشبهات ومراقبة السلطات عن نفسه، ثم يقوم بتحويلها لاحقا إلى عملة اليورو.

اعتمد المخرجان مزيجا متميزا من اليوميات الحقيقية وصور المراسلات والصفقات والإرساليات بالتوازي مع شهادات كبار الضباط والقضاة والمحققين الذين تولوا ملف ماكسي، وما يزالون يعبرون عن أعلى درجات التعجب والصدمة للدقة والحنكة والمطاولة التي تمتع بها ذلك الشاب الذي لم يصل الثلاثين من عمره عندما تربع على عرش إمبراطورية قوامها عشرات آلاف الكيلوغرامات من أنواع المخدرات دخلت غرفته وخرجت منها ورصيدا يقارب الخمسة ملايين من الدولارات في مساحة زمنية قصيرة.

لا فبركة أمام الحقيقة التي تسيطر على مسار السرد الوثائقي لهذا الفيلم وحيوية الانتقالات المونتاجية وتنوع الأماكن مما خفف من وطأة سيطرة المكان الواحد، الذي هو مخبأ ماكسي في بيته وقد توارى عن أنظار والديه لأنهما لم يكونا يريان فيه سوى ذلك الولد الهادئ المسالم ذا الاهتمامات البسيطة والولع بالإنترنت كما يفعل سائر الشباب من جيله، بينما كانت تجري في تلك الدار نفسها التي يحتجز ماكسي نفسه في غرفة فيها ما لا يمكن أن يخطر على بال عندما وصل إلى مرتبة النخبة في الموقع الذي يصنف عتاة المجرمين الذين يواصلون إجرامهم من حول العالم.

وفي إطار السرد الوثائقي أيضا وفي إطار التنوع السردي، كان هنالك استخدام بارع للشهادات التي قدمها رجال فرض القانون والتعليق من خارج المشهد – فويس أوفر – فيما كان ماكسي يمضي في ظلمة الليل أو في النهار ليفرغ حقيبته المحشوة بالطلبيات وليدسها في صناديق البريد التي في الشوارع الألمانية، وحيث يجدها عمال البريد جاهزة للإرسال بعد أن قام ماكسي بتجهيزها لغرض الإرسال بلصق الطوابع اللازمة عليها.

الحيوية والمصداقية

تفاصيل ويوميات

لعبة التخفي بالنسبة لماكسي تجعله يغوص في أعماق خفية بعيدة عن أنظار المجتمع والشرطة، ذلك العالم الخفي الذي عشنا معه تفاصيله ومررنا بدهاليزه، فيما ماكسي يمضي قدما في الغوص فيه وصولا إلى مرحلة أن يصبح هو أحد اللاعبين الأساسيين فيه وكأن هناك عالما موازيا قادرا على ابتلاع ماكسي وغيره وتجنيده لصالح تلك التجمعات السرية الخطيرة.

وأما لجهة جماليات البناء السردي وإيصال القصة الوثائقية، فلا شك أن الفيلم نجح ببراعة ملفتة للنظر في إعادة تجسيم الوقائع وتمثيلها بما أتاح للمشاهد فرصة المعايشة الواقعية لكل ما جرى، وبالإضافة إلى ذلك منحت هذه المعالجة الفيلمية الوثائقية هذا الفيلم ميزات إضافية تمثلت في تقديم سيرة مليئة بالحيوية والمصداقية، وتم تعزيز المشاهد بيوميات ماكسي ولياليه وهو الذي كان بالكاد ينام ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، بسبب كثافة الطلبيات التي تأتيه، وانغماسه في تكديس المال الذي كان ينهال عليه من كل جانب.

 

على أن الجانب الآخر من المروي الوثائقي تكامل من خلال أولئك الذين تفاعلوا عن قرب ممع ملف ماكسي بكل تفاصيله وتشعباته وخاصة المحققين ورجال القضاء الذين خاضوا تجربة فريدة مع شخصية استثنائية وغير مسبوقة.

لا شك أن استخدام العناصر البصرية في هذا الفيلم قد تكامل بالتوازي مع التعليق والحوار، وبذلك وفر مساحة متميزة لتتبع الوقائع وتفاصيل تلك الرحلة الغريبة ومجرياتها والتفاعل مع كشف الأسرار الغامضة لذلك العالم السري الغامض الذي تديره في الخفاء العصابات والقراصنة الرقميون المنتشرون في أنحاء العالم.

 

  • كاتب عراقي مقيم في لندن






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي