"إن كان بدك تعشق" لفواز طرابلسي: في تحليل الثقافة الشعبية

2021-08-12

 غلاف الكتاب

رامي أبو شهاب*

في كتاب فواز طرابلسي بعنوان «إن كان بدك تعشق» الصادر عن دار المتوسط في طبعة ثانية 2019 – سبق أن صدرت طبعة أولى عام 2004 – قراءة للثقافة الشعبية ضمن اختيارات محدودة، غير أنها حملت طابعاً مثيراً للانتباه، فالقضايا التي يعرض لها تتصل بالثقافة الشعبية عبر منظور مختلف، إذ يفتتح الكتاب على

تمايزات وفروقات بين عدة مفاهيم تتصل بالثقافة الشعبية، كي لا يختلط الأمر على القارئ، ولا سيما أن الكتاب يمارس قراءة ثقافية لبعض الظواهر الشعبية، من منطلق قوامه أن مفهوم الثقافة الشعبية يفارق التقسيم الثنائي: ثقافة عليا وثقافة دنيا، مع التأكيد على خاصية التفاعل، والحيوية بينهما، ومن ناحية أخرى، يقيم فروقاً بين

الثقافة الشعبية في مواجهة الثقافة الجماهيرية، والأخيرة تتصل بالإنتاج والاستهلاك الجمعي في سياق الرأسمالية، كما يعرض اختلافاً بين مفهوم الثقافة الشعبية والفلكلور، مع الإشارة إلى صعوبة التمييز بينهما، لكن يكمن الفرق في عملية إعادة إنتاج الثاني، بحيث يُفصل عن بيئته الأصلية لينتقل إلى المدينة ضمن آلية جديدة، ومن ذلك نتاج

الأخوين رحباني وفيروز، ليخلص في النهاية إلى أن لدى الثقافة الشعبية عدداً من الخصائص أهمها: بالحيوية، وعدم الاكتمال كونها في حالة نمو وتحول، وهنا نقف على مقاربة تحليلية تتقصى ثنايا الظواهر، وتبعث برسائل ومقاصد على القارئ أن يعيد إنتاجها في سياقات محددة.

يعرض فواز طرابلسي فرضياته انطلاقاً من النظر إلى الظاهرة الثقافية بوصفها تمثيلاً للحياة والعالم، إذ تعكس رؤية وتصوراً يصدر عن الشعب أو الوعي الجمعي، وإذا ما تتبعنا القضايا التي يتوجه إليها، فسنجد أن اختيارات المؤلف بدت متصلة بالبحث عن هذا التكوين، لتعكس مقولات متعددة منها: نظام التحول الذي يصدر عن صيغ كأن تكون اقتصادية، ومن ذلك تجارة الحرير، وتربية دودة القز، وهناك ما يتصل بالتعبير عن معنى

التفسير للوقائع اليومية للحياة في محور الأمثال الشعبية، في حين الدبكة تحتمل دلالات مضمرة في التكوين الجمعي وإحالاتها، في حين أن الرابع يبحث في أحد الأعياد الدينية، ضمن نموذج حفر معرفي يتقصى تحولات هذا الحدث، ومكنونه الرمزي المضمر، وأخيرا موقع أم كلثوم في سياق تاريخي، وما أنتجه هذا الحضور من جدلية في قراءة هذه الظاهرة.

الحرير: الصعود والأفول

في محور أول يتتبع الباحث صناعة الحرير في لبنان بعنوان «إن كان بدك تعشق تاجر بالحرير» وهو فصل في الاقتصاد السياسي للمرأة اللبنانية، حيث يتسلل إلى مكامن هذه الصناعة، وإحالاتها الثقافية، إذ يرتبط الفعل الاقتصادي بترميز جسد المرأة، الذي يتحول عبر الزمن من منتج إلى مستهلك، فبعد أن يتتبع الكاتب صناعة الحرير بدءاً من الصين، ولاسيما تربية دودة القز، ودورة الحياة التي تنتهي إلى إنتاج الحرير، الذي كان يرتبط بالسيدات النبيلات، حيث بدأ مع زوجة الإمبراطور الصيني، ومن ثم انتقلت هذه الممارسة إلى باقي دول العالم، ومنها لبنان.

وهنا يشير الباحث إلى أن النساء يحتفظن ببويضات دود القز بين نهودهن حيث الحرارة والدفء، ما يشكل مناخا مناسبا لحياة البويضات، نتيجة فقر المزارعين، وعدم قدرتهم على إرسال دودة القز إلى مداخن، والجميل هنا النموذج التقابلي لدورة حياة دودة القز، وما يكمن فيه من بعد شهواني ينتج عن عملية التلاقح، ومن ثم يربط الباحث هذا استغلال الفلاحين الذين يقومون بتربية دودة القز، حيث يذهب جزء كبير من المحصول للمقاطعجي

(صاحب الأرض) الذي يقتطع جزءاً منها كضرائب للحاكم، والوالي والسلطان، مع الإشارة إلى أن عسكر السلطان يعسكرون في المنطقة، ويعيشون على حساب الفلاح، حتى تتحصل جميع الضرائب المستحقة، وهنا يتقاطع الفعل مع البنية الاقتصادية التي تتصل بنموذج ضرائبي شديد القسوة، يكاد يحرم هؤلاء الفلاحين الذين يبذلون جهدا كبيرا لتحصيل العوائد من تربية دودة القز.

   

تنتهي صناعة الحرير بأن تتراجع هذه السلعة مع ظهور الحرير الصناعي، ما أدى إلى إقفال المزارع والمصانع، فعمت البطالة والفقر في البلاد، غير أن الجدير بالتنبه إليه فعل التحول الذي انخرطت فيه طبقة رجال الأعمال، حيث عدلت استراتيجيتها؛ فبدأوا باستيراد البضائع الغربية، في حين تحولت أجساد النساء من الإنتاج إلى التجارة.

وهنا نلتمس نموذجا لغوياً يتردد بين ثنايا هذا المحور، حيث يكثر فواز طرابلسي من استخدام كلمة (بلص) وتعني السرقة بصورة مختالة، ففي ذلك الزمن كان الربا يتضاعف نتيجة حاجة الفلاح للحصول على مستلزمات الحياة، إلى حد ظهور ممارسة توصف بحق المفاخذة، حيث الهيمنة تطال الجسد، فمن حق المقاطعجي عند زواج المرأة العامية، أن يحتفظ لنفسه بالليلة الأولى، ومن هنا، ينبغي تقديم الهدايا له كتعويض عن تلك الليلة.

وهكذا نخلص إلى أن طرابلسي اتخذ من ظاهرة الحرير ملمحاً ثقافياً، يشي بنموذج السلطة التي تمارس السلب، وهنا تتمظهر السلطة بالسلطان، وصاحب الأرض، والسمسار والمرابي، ويعضد ذلك بأن يشير إلى أن ما يتبقى للفلاح من غلة الحرير 10%، في حين يحصل الباقون على 90% في حين قد بلغ عدد النساء العاملات بالحرير عشرة آلاف فتاة يتقاضين مبلغاً ضئيلاً مقابل 13 ساعة يومياً.

ويتصل الحرير بملمح ثقافي آخر لا يبتعد عن نموذج السلطة والطبقية، حيث يبقى الحرير محصوراً بنساء الطبقة الغنية، إذ تحرم النساء العاملات من ارتدائه، ولطالما ارتبط الحرير أيضاً بإثارة الشهوة الجنسية، وهنا يبرر المنع انطلاقاً من منظور تقليدي، عبر صرف انتباه النساء عن الجنس الناتج عن الفراغ، إذ ينبغي أن ينخرطن في عمل مرهق يبدد طاقاتهن ومما يلفت الانتباه منع الأكليروس عمل النساء كون الحرير مادة

شهوانية، ومن ثم أبيح العمل فيه مع وجود عوازل خشبية بين العاملين والعاملات، ومع تقدّم الزمن تحول بعض رجال الأعمال المستثمرين في الحرير إلى أصحاب مصارف، مع تطور عملية التصدير للخارج.

ولعل التطور دفع إلى عقد شراكات مع شركات الاستيراد والتصدير، فبات هؤلاء الرجال جزءاً من طبقة مسيطرة بعد شراء البواخر ليبسطوا سيطرتهم على مرفأ بيروت.

تنتهي صناعة الحرير بأن تتراجع هذه السلعة مع ظهور الحرير الصناعي، ما أدى إلى إقفال المزارع والمصانع، فعمت البطالة والفقر في البلاد، غير أن الجدير بالتنبه إليه فعل التحول الذي انخرطت فيه طبقة رجال الأعمال، حيث عدلت استراتيجيتها؛ فبدأوا باستيراد البضائع الغربية، في حين تحولت أجساد النساء من الإنتاج إلى التجارة، ولاسيما مع قدوم الاحتلال الفرنسي لينهي طرابلسي هذا المحور بأغنية لحن (اوسكداره):

وإن كان بدك تعشق

تاجر بالحرير

والغرام يا عيني

بدو فلوس كثير

آمان

الأمثال: التشكيل والدلالة

في المحور الثاني نقرأ صيغة ثقافية تحتمل جملة من الإحالات الدلالية، التي تتقاطع مع خلفيات ثقافية تحكم هذا الواقع المنتج للحكم والأمثال، التي تتصل بإنتاج الحكاية، ومن ثم استقلال الأقوال عن الحكاية المنتجة لها، لكنها في كل الأحوال كانت تصدر عن فلسفة ما، تمتزج بعدد من الظواهر، أهمها اكتسابها جمالية ودلالة لم تعد

تتطابق مع جمالية ودلالة العمارة الأصلية تبعاً للظروف، ومتغيرات الزمان والمكان، في حين ربما تعاني بعض الأمثال مع الاندثار في بعض الأحيان، ومن جهة أخرى فثمة في الأمثال تناقضات لا يمكن تفسيرها، لأنها تحاكي الحياة، فلا جرم أن يقال «إن الأمثال تفضحنا»؛ أي أنها تقدم تجليات لا يمكن إنكارها عن قيمنا الثقافية.

وفي جزئية تتصل بالأمثال يذهب الباحث لتصنيف الأمثال ضمن عدد من المناسبات التي تتصل بموضوعها، ودورها الوظيفي، كونها تتقاطع مع الحياة والفلسفة والاقتصاد والجنس، وسائر مجريات الحياة، وهنا يورد عدداً من الأمثال التي تعكس تلك الجوانب، ومنها ما يتعلق بالسلطة، وتموضعها في وعي الشعوب، والكراهية التي

تنشأ تجاهها، ومن ذلك طريف «يقول عادِ أمير ولا تعادِ خفير» كدلالة على البطانة التي ينشأ عنها كثير من شرور السلطة، كما نقرأ الأمثال التي تعكس حساسية تجاه رجال الدين، ومنه مثل يقول: «صباح إبليس ولا صباح قسيس» وهكذا تعكس الأمثال وجدان الشعوب وهواجسها تجاه بعض الأمور، أو مجريات الحياة اليومية.

الرقص: رسائل ومقاصد

في المحور الثالث نقرأ تحليلاً للرقص، ولاسيما الدبكة الشعبية التي تنتشر في بلاد الشام، ويتشاركها عدد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهنا يتتبع الباحث نشأتها، وبعض العناصر المشتركة بينها، كما يبحث في وظائفها الاجتماعية والثقافية، وما تحمله من دلالات مضمرة، ومن ذلك الإشارة إلى أن الرقص نشأ مع الإنسان

البدائي، ضمن بعد طقسي يتصل بالصيد؛ ولهذا ينظر للرقص على أنه واسطة سحرية، ومن ثم يشرع الباحث بتصنيف أنواع الدبكات تبعاً للجغرافية، والثقافة المنتجة لها، مع إشارة إلى أن الدبكة تعكس السلطة والهيمنة، أو القوة أمام الآخر الذي ربما يكون عدواً، كما يمكن أن تعكس الدبكة التي تصدر عن الرجال أو النساء إيحاءات

ذات طابع سلطوي، يظهر القوة، أو الرقة، كما يمكن النظر على أنها تعكس التلاحم بين أفراد الجماعة وقوتها، فهي ربما تصدر عن عصبية، وهنا نرى كيف تنفتح الدلات التي تعكسها، ومن ذلك إشارة إلى أن بعض الدبكات تنقل رسالة تجاه بعض القوى، ومن ذلك ما ظهر في فيلم المخرج ميشال خليفي، حيث بدا الرقص نوعاً

من التحدي تجاه المحتل في بلدة تقع شمال فلسطين، وهكذا لا يمكن إلا أن نثمن قدرة الكتاب على رصد التكوينات الثقافية، التي تنتج عن هذا الظاهرة، وطابعها الوظيفي الذي يعتمد تكويناً رمزياً، كما أنها تحتشد بالدلالات التي تقرأ باتجاهات متعددة.

الصراع الطبقي

في محور رابع يحلل الكتاب عيد «البربارة» أحد الأعياد المسيحية، وفي هذا نقرأ إحالات عميقة للصراع الطبقي، حيث يبدو «عيد البربارة» فرصة ليكون ممارسة أو خطابا مضاداً من لدن الفقراء تجاه الأغنياء، حيث يكون ارتداء الأقنعة سلوكاً للحصول على الأعطيات من قبل الأغنياء، وحين يواجه ذلك بالرفض تحول هذا العيد ليعكس سلوكاً آخر، حيث يشير الباحث إلى النهب الذي حصل في بيروت أثناء الحرب الأهلية من أجل تحقيق العدالة والمساواة.

لقد انزاح العيد من دلالته الدينية ليمسي ممارسة ثقافية، كما يعدّ مقصداً كونه ينطوي على عدد من الرسائل، كما يمكن أن يقرأ في سياقات معاصرة، وهنا نرى كيف يتقاطع هذا المحور مع محور الحرير، ونعني من حيث قراءة الظاهرة، ولا استقرارها، وتحمليها الكثير من الإشارات.

أم كلثوم: تنازع المرجعية

ناقش المحور الأخير حضور المطربة أم كلثوم، وما تحمله من تحولات بدأت من عهد الملكية إلى الثورة، وبيان موقع الطبقة الوسطى، وقدرة المطربة على أن تعكس وعي الجماهير، والتنازع على تمثيلها بين النخب، وعامة الشعب، كما دورها في هزيمة حزيران/يونيو، حيث نظر إلى حضورها بوصفه تخديرياً، في حين هناك من يراه جزءاَ من الثورة، كما يُقرأ تموضع أم كلثوم بإحالتها إلى معنى يتذبذب بين الأنثى العبدة والسيدة المعبودة، من وجهة نظر تتصل بالتكوين الأنثوي.

وفي الختام يمكن القول إن هذا الكتاب من أعمق الدراسات التي ذهبت لتحليل بعض الظواهر الثقافية الشعبية، من حيث القدرة على رصد فعل التحول، واستبطان الدلالات العميقة لظواهر شعبية بلغة تتناسب مع النهج الذي تعتمده الدراسات الثقافية، كما يمكن أن يثير الكتاب الرغبة لقراءة الكثير مما يوجد في يومياتنا، ويحتاج إلى التحليل.

 

  • كاتب أردني فلسطيني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي