رواية "المعتقل" .. بين حقّ القوّة وقوّة الحق

2021-08-02

غلاف الرواية

سلمان زين الدين*

في روايتها «المعتقَل» الصادرة عن «دار نوفل» بترجمة أدونيس سالم، تنطلق الروائية الأمريكية، الهندية الأصل، سميرة أحمد من الماضي البعيد، وما اكتنفه من تمييز عنصري بحق الأمريكيين المتحدّرين من أصول يابانية، خلال الحرب العالمية الثانية.

وتتكئ على الحاضر القريب، وما يكتنفه من سياسات إبعاد وممارسات عنصرية وجدران فصل، في ظل الإدارة الترامبية، لترسم صورة قاتمة متخيّلة للمستقبل الأمريكي، تقوم على الإسلاموفوبيا والتمييز العنصري وتصنيف الناس على أساس إثني، ما يشكّل انحرافاً عن الأدبيات الأمريكية القائمة على احترام حقوق الإنسان والتفاعل بين مكوّنات الشعب الأمريكي.

غير أن الأمل ينبثق من قلب الصورة القاتمة ليتكفّل بتصحيح الانحراف وإعادة التاريخ إلى مجراه الطبيعي. والانحراف والتصحيح كلاهما يتمّ بفعل بشري.

واقعة تاريخية

تستلهم الكاتبة واقعة اعتقال نحو120 ألف أمريكي من أصول يابانية، خلال الحرب العالمية الثانية، ووضعهم في معتقل مانزانار الصحراوي، أحداث روايتها المستقبلية. وهو استلهام تُعزّزه الممارسات العنصرية لإدارة دونالد ترامب.

«فأحداث رواية «المعتقل» رغم أنّها تدور في مستقبل أمريكا، متجذّرة بعمق في تاريخنا. وأنتم تشهدون عليها الآن، في حاضرنا» على حد تعبيرها في ذيل الرواية. وترسم سيناريو متخيّلاً لواقعة مشابهة، تحصل في المستقبل، تتجلّى فيها العنصرية والتمييز الديني والإسلاموفوبيا، من جهة. ويتجلّى الفكر الليبرالي والديمقراطية الأمريكية واحترام حقوق الإنسان، من جهة ثانية.

معتقل صحراوي

يشكّل معتقَل موبيوس الصحراوي الفضاء الذي تجري فيه أحداث الرواية، فمنذ اللحظة التي يتم فيها اعتقال مئات المسلمين الأمريكيين، وانتزاعهم من منازلهم بقوّة «القانون» واقتيادهم إلى الفضاء المكاني المذكور، في صحراء كاليفورنيا، يندلع صراع بين المعتقِلين والمعتقَلين، يتخذ تمظهرات شتى في الرواية، وتسقط فيه ضحايا كثيرة، وينجلي عن نتائج معيّنة. ويكون لكلٍّ من الطرفين أسلحته وأدواته في هذا الصراع الذي تتمظهر فيه العنصرية والوحشية والطائفية، بأبشع صورها، من جهة، وتتمظهر فيه المقاومة والشجاعة وإرادة الحياة، بأبهى صورها، من جهة ثانية.

المعتقِلون في الرواية هم: الرئيس الأمريكي صاحب القرار، وزير الحرب صاحب السلطة، وهيئة الإبعاد صاحبة الأمر، ومدير المعتقل وأعوانه من عناصر الحرس الوطني وهيئة الإبعاد، من أدوات التنفيذ. والمعتقِلون هم مئات المواطنين الأمريكيين المسلمين، المتحدّرين من إثنيات مختلفة الذين اعتُقلوا على خلفية الربط بين الإسلام والإرهاب، وتحميل الجماعة مسؤولية ما يرتكبه أفراد منها، في عقاب جماعي يتناقض مع القوانين الأمريكية والدولية.

حق القوة وقوة الحق

إنه صراع بين حق القوة الغاشمة الذي يحتكره الطرف الأول، ويمثّله مدير المعتقّل، وقوة الحق الناعمة التي يمتلكها الطرف الثاني، وتمثّلها الشابة ليلى أمين ورفيقاتها ورفاقها الشباب. ولكلٍّ من الطرفين خططه وأسلحته وأدواته. يستخدم الطرف الأوّل التعنيف والتهديد والقمع والتعذيب والقتل والإخفاء والتجسّس والمراقبة. ويستخدم الطرف الثاني الصبر والانتظار والإضراب عن الطعام والتظاهر والكتابة والتسريب والإعلام.

هذه الأسلحة يتم استخدامها، في غمرة الصراع، في إطار من الفعل وردّة الفعل، وتترتّب على استخدامها نتائج خطيرة، تتمثّل في إغلاق المعتقل وتحرير المعتقَلين وعودتهم إلى بيوتهم والقبض على مدير المعتقَل لانتهاكه القوانين.

على الرغم من عدم تكافؤ موازين القوى بين الطرفين، فإن شجاعة ليلى أمين ورفاقها وإصرارهم على حقهم في الحرية واستعدادهم للتضحية وتعاون بعض الحراس معهم ودعم المحتجين لهم، من جهة، وغرور مدير المعتقَل وأتباعه وفظاظتهم في المعاملة وإفراطهم في استخدام القوة، من جهة ثانية، يقلب تلك الموازين لمصلحة المعتقَلين، بعد دفعهم أثماناً باهظة، وبذلك، تنتصر قوة الحق على حق القوّة.

خطوات المعتقَلين

في مجريات الصراع، تأتي وضعية الاعتقال الجماعي التعسّفي، وما يرافقها من وسم المعتقلين بأرقام رمزية، وإسكانهم في مقطورات هي أقرب إلى العلب الصغيرة، وإخضاعهم لإجراءات صارمة، والتنكيل ببعض النساء، وعنصرية المدير المقيتة، وفظاظة الحرّاس، وسواها من الوقائع القاسية، لتدفع ببعض المعتقلين الشباب إلى التفكير في ما يمكن عمله للخلاص من هذه الوضعية. فتنبري ليلى أمين، ابنة السبعة عشر عاماً، وصديقاها عائشة وسهيل، مستفيدين من لقاءاتهم في حديقة الصخور، وعملهم معاً في حديقة السلام، إلى مواجهة الأمر الواقع.

ويشكّل الثلاثي محوراً لتحرّك ينضمّ إليه أصدقاء آخرون، ويتمخّض عن سلسلة من الخطوات العملية، تتدرّج تصاعداً حتى تحقيق أهداف التحرّك، بدءا من الإضراب عن الطعام، مروراً بتسريب الرسائل إلى وسائل الإعلام، وتنظيم الاعتصامات الصغيرة داخل المخيم، وصولاً إلى التظاهر عند مدخله، على مرأى من وسائل الإعلام وعشرات المحتجين الذين يرابطون خارجه.

وهي خطوات يساعدهم فيها ديفيد، حبيب ليلى اليهودي، من خارج المخيّم، مدفوعاً بالحب ورفض الظلم، والعريف رينولدز وصديقه فريد وآخرون غير معلنين من داخله، مدفوعين بالصداقة والتعاطف مع المعتقلين ورفضهم انتهاك حقوق الإنسان.

   

هذه المجريات، بخطوات المعتقَلين وممارسات المعتقِلين، تُظهّر مجموعة من الشخوص الروائية التي تنجح الكاتبة في رسمها، بما يتوافق مع الأدوار المسندة إليها

ممارسات المعتقِلين

في مقابل هذه الخطوات، يقدم المدير وأعوانه على ارتكاب شتى الموبقات مستقوياً بقانون ظالم وقوّة غاشمة وعنصرية مقيتة، وهي موبقات تتدرّج تصاعداً، بدورها، من تحوير الأفكار وممارسة الوعيد والتهديد في اجتماع التوجيه، إلى تعنيف المرأة المحتجّة وصعقها بالكهرباء، والتنكيل بنور وأسماء وبلقيس وإخفائهن، وترهيب المعتقلين بإطلاق النار في الهواء، وَلَكْم سهيل خلال العشاء الجماعي وكسر أنفه على مرأى من

مراقبي الصليب الأحمر، والتحقيق مع ليلى بالترهيب والترغيب وتعنيفها جسدياًّ وكلامياًّ، واعتقال والديها والتهديد بقتلهما، وإطلاق النار عليها، ما أدى إلى مقتل صديقها جايك/ العريف رينولدز الذي يتلقّى الرصاصة عنها ويفتديها بنفسه، وسواها من الممارسات التي تعكس تسلّط السلطة، وضيق صدرها، ومحدودية أفقها. وإذا كانت هذه الممارسات أدّت إلى إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بكثيرين، والتنكيل بليلى ووالديها، وسقوط سهيل

لدى اقتحامه السياج المكهرب، ومقتل جايك لدى حمايته ليلى، وهي أثمانٌ باهظة تجعل بطلة الرواية تشعر بالذنب، فإن ما تتمخّض عنه خطوات الشباب المتصاعدة بقيادة ليلى، من إقفال المخيم، وتحرير المعتقلين، والقبض على المدير، تستحقّ دفعَ مثل هذه الأثمان، ذلك أنّ للحرية الحمراء بابها الذي يُدَقُّ بكلّ يدٍ مضرّجة، على حد تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي.

الشخصية والدور

هذه المجريات، بخطوات المعتقَلين وممارسات المعتقِلين، تُظهّر مجموعة من الشخوص الروائية التي تنجح الكاتبة في رسمها، بما يتوافق مع الأدوار المسندة إليها؛ فمدير المكتب يجسّد القوة الغاشمة خير تجسيد، بجثّته الضخمة، وبزّته السوداء، ووجهه الممتقع، وأوداجه المنتفخة، وعينيه الجاحظتين، وابتسامته المصطنعة، من الناحية الخارجية.

ويجسّده خير تجسيد، بتحويره الأفكار، ونزقه، وانفعاله، وسرعة غضبه، وضيق أفقه، وعنصريته المقيتة، وسوء تقديره، من الناحية الداخلية. ولعل هذا البروفايل، الخارجي والداخلي، هو الذي يوقعه في الأخطاء التي ارتكب، ويعجّل في نهايته.

وليلى أمين تمثّل قوّة الحق في مواجهة حق القوّة، وهي على درجة متقدّمة من الوعي والذكاء والشجاعة وحسن التدبير وصحة التقدير. ترفض الظلم، وتمتلك مواصفات القائد وحس المغامرة والاستعداد للتضحية، ما يجعلها تنجح في انتفاضتها. على أن صِغَرَ سنّها، وهي البالغة منه سبعة عشر عاماً، قد ينتقص من البروفايل المرسوم لها، ويدعو إلى التساؤل عن الملاءمة بين العمر الزمني للشخصية والدور التاريخي الكبير المنوط بها. وعائشة تمثّل الصديقة النموذجية الجاهزة لتحدّي الصعاب، ودعم صديقتها في كل الظروف.

وديفيد يمثّل الحبيب المخلص الحريص على حبّه وحبيبته ليلى والجاهز لدعمها وتحريرها من المعتقل أياًّ تكن التضحيات. والعريف رينولدز/ جايك يوازن بين القيام بواجباته في تنفيذ الأوامر، وحقّه في الدفاع عن قناعاته في احترام حقوق الآخرين والتعاطف مع المظلومين، والمساهمة في رفع الظلم عنهم.

ولذلك، لا يتورّع عن مساعدة ليلى ورفاقها وتأمين الحماية لهم، والتصدّي لمدير المخيّم حين يقدم على انتهاك القانونين الأمريكي والدولي.

ولعل علاقته بليلى تتطوّر من التفهّم إلى الصداقة إلى الحب غير المعلن، الأمر الذي يفسّر افتداءها بنفسه، وتلقّي رصاصة المدير بصدره، بدلاً منها. في «المعتقل» تدين سميرة أحمد العنصرية، على أنواعها، وتراهن على الديمقراطية وتربح الرهان، وتؤمن بقدرة الشباب على تغيير الحاضر وصناعة المستقبل، على مستوى الحكاية، وتتمخّض عن نصٍّ روائيٍّ جميل، يبرز فيه السرد، بتدفّقه على رسله، بين التفاصيل والجزئيات واللحظات

الدرامية والداخل والخارج، ما يجعله يُمسك بأنفاس القارئ، ويضعه في قلب الحدث الروائي، على مستوى الخطاب، ما يقيم تكاملاً بين الحكاية والخطاب الروائيّين. على أنّ إشارة، لا بدّ منها، في ختام هذه العجالة، إلى براعة المترجم، فتبدو الرواية عربية لا معرّبة، وهذا ما يشكّل قيمة مُضافة إلى قيمتها الأصلية، ويجعل قراءتها محفوفة بالمتعة والفائدة.

 

  • كاتب لبناني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي