«النسّاي» للعراقي يوسف المحسن: لعنة اغتيال الذاكرة

2021-07-28

وليد النعاس

في روايته «النسّاي» دار سطور بغداد 2021 يعيد يوسف المحسن تنقية الذاكرة، هوية للفرد أو الجماعة، وكأن الرواية محكي يؤرشف أوجاع العراقي تحت مختبر المآسي والأحداث المؤلمة، التي أفقدته الذاكرة وأفقدته معرفة تاريخه المأزوم رعباً وخوفاً واقصاء. فالكاتب أعاد صوغ الذاكرة سرداً جمالياً وفنياً، نحو متاهات مفتوحة في عوالمها، متخيلة في أحداثها، تقصّى فيها مناطق العتمة في الذات الإنسانية، عبر مسارات متمايزة في فهمها ودلالاتها، باستنطاق تخييل يوهم القارئ بواقعية أحداثها، وهو ينسج أمكنة وأزمنة تستظهرها ذاكرة شخصياته، في محكيات تضج بالمثير من الانتقالات المعرفية، من التاريخ إلى الجغرافية، ثم إلى النقد والميثولوجيا والدين، لتعرج إلى الشهوة والجنس، وصولاً إلى عادات الشعوب ومجاهلها وصفات الحيوان، رحلة فكرية تجعل القارئ يتيه بين تصديقها حقيقة أو تحريفا.

النسّاي

تبدأ الرواية من لحظة تؤرخ سيرة، تتمظهر مزجاً متداخلاً ما بين وعي الساردين وأحداث عوالم «النسّاي» من خلال انتقالات متكررة عبر الماضي والحاضر والمستقبل، تصاغ منها أحداث القرية، خلطاً بين الوقائعية والمتخيلة، بما يحرك كوامن مجهولة من تلك الذاكرة المفقودة، المتتبعة من الساردين الرئيسيين ملاحقة في وصفها، عبر مسارات لا يمكن التنبؤ بها، كأنها أحجية ملغزة. ونتساءل من هو النسّاي؟ فهو عنوان يحمل حقيقة ذات معان تحتمل دلالات مختلفة، إذ إن الاتيان به لم يكن وليد صدفة، إنما قصد ثقافي استنطقته مخيلة الكاتب من رصيدها المعرفي، نحو تخليق متن مستفز عن حقبة زمنية تخبرنا عن تأريخ مظلم، كأنه حاضر في ذواتنا وما يحيط بنا، قد لا يكون ظاهراً لكنه مخبوء فينا، في متاهات مصيرنا، في صراعنا ومذابحنا وأسفارنا ولغتنا. بإمكان القارئ أن يعي حقائق عالمنا المعاش، أو ربما رحلة تذكر مرتبطة بالزمن الذي صاغه بروست في روايته «البحث عن الزمن المفقود» ذلك الزمن الذي أعاد صوغه المحسن، هماً إنسانياً واغتراباً فكرياً يمكن أن نلمحه في «أعلى تصوراته للأسباب الحقيقية التي تقف وراء تفشي مرض النسّاي، حيث بدوا متشبثين بما أطلقوا عليه فرضية الكبت، التي تدعي أن النسيان عكسي للرغبات والأمنيات المكظومة».

قد يكون «النسّاي» ذلك الإدراج التاريخي الذي أرشف حقبات زمنية مظلمة، ربما زمن ما بعد 2003، أو زمن ما قبله، في حقبة ما، ثم اخترعها متخيلاً عبر عالم ابتكره الكاتب عن مجتمع (القرية التي كبرت) مفتقا ما حصل فيها من أوجاع.

وقد يكون «النسّاي» تعبيراً عن فكرة المؤامرة التي واجه بها إخفاقاتنا، حين تسلعنا السلطة كأي بضاعة، لنبحث عن انهزامنا وفشلنا، لننسج خيوط النسيان حولنا كأنها إرادة كونية تشابه عقيدة الانتظار للغائب، التي صاغتها مخيلة الأجيال، وبسببها نخضع لنمطية الاستبعاد المزدرى من قبل السلطة التي تمتهن ذاكرتنا بلعبة مثيرة، تجسدها وحشية «النسّاي» وغريزته المتحققة بنشوة محو الذاكرة، وأخذ ضحاياه واحداً تلو الآخر إلى الموت الجماعي. «النسّاي محا ذاكرة الفريسة والصياد، والآكل والمأكول، والهارب والمطارد في المدينة… الأهالي وبفعل النساي أصيبت أعداد منهم بالعمى، لأنهم نسوا خطورة البحلقة طويلاً في الشمس.. الأهالي باتوا يخشون الشفاء من النسّاي، لا يجدّون أو يجتهدون للبحث عن طريق الخلاص منه».

وقد نزعم أن «النسّاي» محمول تأريخي، يغوينا للبحث عن هويتنا التي أضاعتها السلطات بجميع مسمياتها، السياسية والدينية والبطريكية والخرافية، بدءاً من تأريخ مغفَل إلى يومنا هذا، المتناسل من قمع وحروب وقتلة، وفق صوغ لغوي تخييلي يرمي إلى الكشف عما هو قابع تحت السطح، إن سكان قرية «النسّاي» نحن المقموعين والمهمشين والتائهين، السائرين إلى الموت بإرادة سلطتنا وفقيهنا، أهل القرية نحن حائط الحدود والجغرافيا، التي سورتها الأرامل، «النسّاي» هو الكشّاف الذي أرغم ذاكرتنا على فقدان هويتها الذاتية بفعل ما حيك ضدها من قساوة.

ثيمة الذاكرة

أما متخيل الذاكرة فله استدعاءات مع فضاءات أخرى، فمن المعلوم أنه لا يمكن لأي كاتب أن ينتج نصاً دون مرجعيات يتلاقى معها تنصيصاً ثقافياً، مستقطباً منها زاده المعرفي. وليس بدعاً أن يكون الكاتب قد قرأ متوناً سردية فتنته بنيات محكياتها وصياغتها وطقوسها السحرية، ونحو ذلك مما يعرفه صائغ حكاية «النسّاي» وهو مما يحسب له قدرة في استشفاف متخيل الآخر. لذلك كان عنوان الرواية «النسّاي» ثيمة تستدعي تماهياً في اختراعها لعبة الذاكرة مع نتاجات روائية سابقة، قد تلمحها ذاكرة القارئ في رواية «مئة عام من العزلة» مشخصة في قرية (ماكوندو) التي أصابها الوباء المشابه لفعل «النسّاي» بما يستفز ذاكرة أفرادها، حين فقدت نحو بديل آخر للتذكر، كأنها قرية (ماكوندو) ذاتها، التي مرّت بمراحل ثلاث، مكاناً للأحداث، لتكبر أرضاً ومتخيلاً، بعد أن كانت بضعة بيوت من الطين «تذكروا دائماً أن الماضي ما هو إلا كذبة، أنه ليس للذاكرة دروب للعودة». هذا التوصيف في تشابه فقدان الذاكرة والقوى الغيبية والسحر والخوارق والموت، تشعرنا برباط وشيج بين الروايتين، وأن علاقتهما تتحدد في كونية خطابهما تصنيفاً مفهومياً في إنتاج معرفة سوسيولوجية، تتقصد تنقية ذاكرة الشعوب، «وجعل ما لا يمكن الاستدلال عليه مرئياً وإنتاج ما لا يبلغه أي تصور آخر سواه».

وقد تبدو ثيمة الذاكرة منبعاً في أعمال روائية أخرى، لكن دون تشابه مع رواية «النسّاي» في أشكالها السردية أو وقائعها أو متخيلها، إنما بتسليط الضوء على ثيمة التذكّر التي تنفتح على اشتغالات أخرى، تتشارك مفهومياً في إعادة صوغها عبر نافذة التخييل، كما في رواية «الشعلة الخفيفة للملكة لوانا» لأمبرتو إيكو» حين يفقد بطل الرواية (يامبو) ذاكرته نتيجة حادث، لكن ذاكرته تستدعي خزينها المؤرشف صوراً وعلامات للأشياء ومسيماتها، كأنها ولادة قسرية تريد ولوج الحياة من جديد، حياة تعيد تسمية الأشياء باستنطاق خبرة الذاكرة البسيطة، على مستوى الحوادث والمعلومات والأزمنة، تلك المرتبطة بهوية مؤقتة، كأنها إفاقة من غيبوبة لا وضوح فيها، إنما تريد الحفاظ على جزء من حضورها.

وفي استدعاء آخر من محكيات «النسّاي».. «بعد ما يقارب من الساعة على شروعه في البكاء، التي تبعت عشيات ومساءات عدة، مسح دمعه بكم الرداء، وألقى نظرة متأملة طويلة إلى الحصان، عانقه ثانية ثم قبله وابتعد خطوات إلى الخلف مصوباً فوهة البندقية إلى رأسه». «كره المرايا شعور ترعرع معه منذ أن كان صغيراً، يستشيط غضباً كلما لاحت شظية مرآة أمام وجهه».

إذ يذكرنا النصان أعلاه برواية «طبل الصفيح» لجونتر غراس، وهي تصف لنا إنساناً تباطأ نموه بسبب حادث عارض أصابه زمن طفولته، كان من تأثيره أنه يستطيع تحطيم زجاج الأبواب والنوافذ، إذا ضرب على طبلة معلقة على صدره، مع صراخ وعويل يرافق هذا الفعل.

وقد نلمح في وقائع بطل روايته (النسّاي) المنعوت بـ(ن – ح) تشاركاً مع بطل رواية «المحاكمة» لكافكا، من حيث عبثية الحياة التي تقوده نحو متاهات لم تكن من اختياره، أو من تصميم سابق لها، ذلك حين يسرد بطل رواية «النسّاي) أوجاعه وتيهه المنفلت عن واقعة، فيقول: «ربما سيكون بمقدورنا أن نتقاسم هذا العالم مع كائنات لا يسايرنا شك في أنها تقترف الأخطاء والجرائم». وفي نص آخر يقول: «لقد تعلمت أن الأشرار يتم استنساخهم والدكتاتوريين يتم نسخهم، والطغاة يتشبثون بأمزجة الكراسي».

وحين يحتج فلسفياً يقول: «تقولون الأسد هو خراف مهضومة، لكن الكائن الذي يشبهكم هو الشكل النهائي لحيوانات دقت أعناقها، وسلخت وطهيت وقطعت إلى شظايا ومضغت ومن ثم دفعت إلى الغائط».

فاستدعاءات ثيمة التذكر كانت حاضرة في متون سردية أخرى، لكنها في رواية «النسّاي» بقيت دلالاتها مسكونة بفراغات ذات أبعاد مفتوحة التأويل، كأنها لعبة من الكاتب إلى القارئ، مقصود منها سحبه إلى وقائعها، مقنعاً إياه بحوادثها، ومستسيغاً لسردها، ليزداد جرياً وراءه وشوقاً لمعرفة غرائب عوالمه.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي