رواية «القبّان» للعراقي ريبال محمد: الحياة بما نحسّها هي الحل الأمثل لوجودنا

2021-07-20

مروان ياسين الدليمي*

رواية «القبّان» للكاتب العراقي الشاب ريبال محمد، التي سبق أن فازت بجائزة الشارقة عن العمل الأول عام 2020 تحيلنا إلى عالم يبدو واقعيا في تفاصيله، لكنه يتحايث مع عالم الأوهام والأحلام والكوابيس، حتى إننا لا نفتأ نتساءل حتى نهاية الرواية، في ما إذا كانت الأحداث واقعية، أم أنها منفلتة من خيالات جامحة عادة ما تنشط لدى بعض الأشخاص، عندما تكون تركيبتهم النفسية واقعة تحت تأثير ضغوطات شديدة، تدفع بمخيلتهم إلى أن تكون نشيطة وفعالة، في محاولة يائسة منهم، لتحطيم المعرقلات التي تواجههم في الحياة، وتسبب لهم الشعور بالعجز والإحباط؟

الدراما المسرحية وهيكلة النص

اشتبكت تقنيات متنوعة في إنضاج حبكة السرد، منها ما يقع في ضوابط السرد البوليسي، ومنها ما تأسس على تقنية الفعل الدرامي بصيغته المسرحية المشهدية، ومنها ما يدخل في باب المقاربة ذات النزعة الفلسفية، بما تطرحه من هواجس حول معنى الحياة والانتحار والوجود: «ما هو الخلود؟ وما هيئته؟ هل حب التكاثر يمثل جزءا من عملية البحث عن عشبة الخلود؟ هل أخفق كلكامش حقا في مسعاه للحصول على عشبة الخلود؟ أم إنه أخذ بكلام ونصائح سيدوريب بالاستمتاع بما تبقى له من وقت قبل موته؟».
تكشف الرواية في محور متنها الحكائي عن تمركز عالم الفن المسرحي، بشخوصه وصراعاته وبنيته الدرامية، التي عادة ما تتجلى في خواصها التقنية، على اعتبار أن كريم ناصر الشخصية المحورية للرواية يمتهن الكتابة للمسرح، وهناك شخصيات أخرى تدور حوله (سرحان النمر، وسام، أحلام) تبدو كلها محكومة حياتها بعلاقتها المشروطة مع المسرح، فلا غرابة إذن أن يتناوب الفعل الدرامي مع السرد الروائي في هيكلة النص: «إنه بطبعه دائم التأخر مثل الشخصيات التي يقوم بتأليفها، كالعجوز الذي ترينه أمامك يشرب الشاي وكأنه غير مبال بصرخات الطفلة، ولا يرغب في مساعدتها، حيث وجدها عاجزة عن مساعدة نفسها، وفي هذا المأزق الكبير، كلنا ننتظر أن يهب لمساعدتها ضد اللصوص، بفضل تفاعلنا واندماجنا باللحظة الدرامية التي نشاهدها».

عالم ثنائي القطب

بدا ريبال منذ الصفحات الأولى ساعيا إلى أن يضع المتلقي في منطقة يتأرجح فيها السرد ما بين عالمين غريبين ومتقاطعين، لم يكن من السهولة بمكان على من يتلقى الرواية أن يلمس حدودهما بوضوح، وقد نجح في أن يجعلهما يتماهيان، وبات من غير الممكن الفصل بين الواقع والمتخيل، وهو بذلك أدخل المتلقي في لعبة تناوب فيها الواقع والمتخيّل على تبادل المواقع في ما بينهما، مستندا في تشكيل هذا العالم الثنائي القطب إلى شخصية الكاتب المسرحي الشاب كريم ناصر، الذي نذر «حياته للكتابة واللعب بما يستطيع بدمى الحياة المتاحة» ولم يكن يجد فرقا بين ما هو حقيقي، وما هو متخيل، وكان لسيرته الذاتية بكل غموضها أن تلعب دورا كبيرا حتى يمارس لعبة التخييل في مسرحياته، التي تحمل الكثير من الغرابة والدهشة: «هذه الرواية التي يرويها كريم لمن حوله، ولا أحد منهم يعرف أنها مجرد قصة مختَلقَة من اختراعه لا أساس لها من الصحة، إذ رغب أن يحوّل حياته وتاريخه إلى مسرحية من اختراعه هو، لا علاقة لها بمرجعيتها الواقعية».
كريم ناصر له معاييره الخاصة في رؤية الأشياء والإحساس بها، إذ يحمل في داخله إيمانا عميقا بالوصول إلى حيث يريد، تدفعه إلى ذلك الرغبة في الانتقام من الواقع وليس التصالح معه، عبر انزياح نصوصه المسرحية إلى واقع متخيل، من بعد أن وجد نفسه مخذولا من العالم الواقعي الذي سلبه حقه في معرفة من يكون والده، ومن ثم فقدان والدته في حالة انتحار تشير إلى أن موتها لم يكن انتحارا إنما كان اغتيالا، وليتضح له في ما بعد أن أركان المشرف على مزارع السيد جواد، الذي كان يعتبره بمثابة والده، هو نفسه الذي تولى عملية شنق والدته، وأن والده الحقيقي الذي لم يعترف بأبوته هو السيد جواد مالك المزرعة من بعد أن عاشر والدته، وهو نفسه الذي دفع عامله أركان إلى شنقها، ويتحمل جواد أيضا مسؤولية اغتيال الصحافي مازن والد أحلام، تلك الفتاة التي تحبه والتي ورثت شركة للإنتاج الفني، بعد مقتل والدها، واحتكرت إنتاج مسرحيات كريم ناصر بعقد يمتد لعشرة أعوام.
إن الطريقة التي جاءت عليها حبكة الأحداث، وبقدر ارتباطها بالتركيبة النفسية لشخصية كريم ناصر، فإن المؤلف استثمر قراءات التحليل النفسي، خاصة من وجهة نظر سيغموند فرويد ونظريته «عقدة أوديب» وشخصية كريم ناصر بدت أقرب في تركيبتها إلى هذه النظرية.

منطقة اشتغال محايدة

تعمَّد المؤلف إلى أن يجرَّد أحداث روايته من وحدتي الزمان والمكان، حتى أن مملكة» الشمس» المتخيلة، التي تتشيد في فضائها الأحداث والشخصيات، لا شيء حقيقي يجمعها بعلاقة زمنية مع الواقع خارج النص، ومن غير الممكن أن تشير إلى بيئة جغرافية لها صلة بحيثيات الواقع.
هذا الانحياز التقني البعيد عن مرجعية زمكانية دفع ببنية النص إلى أن تمتلك فضاء سرديا رحبا، غير قابل للاستدلال عليه تاريخيا، ونتيجةُ ذلك، أصبحت مصائر شخصياته، وما يمكن أن تؤول إليه من احتمالات تتحرك في منطقة بعيدة عن أي اشتراطات واقعية ذات أبعاد مرجعية في الذاكرة الاجتماعية، وهذا الخيار الذي لجأ إليه المؤلف، منح روايته فرصة أن تتموضع في منطقة اشتغال فنية محايدة، ومنحه فرصة أن يشحنها بمحمولات تشفيرية، تجعلها قابلة لأن تدور في محيط زاخر بممكنات الإسقاط والتأويل، على بيئات وأزمنة مختلفة.

تهديم الاشتراطات المنطقية

توزعت الرواية على أربعة فصول جاءت بالعناوين الآتية: العجوز المخلص، حائط الشخصيات، المزرعة الناقصة، وهم السعادة، إضافة إلى المشهد الأخير الذي حمل عنوان: «ما قالته الشمس لظلالها قبل المغيب». الملاحظ أن أغلب أحداث الرواية في الفصول: الأول والثاني والثالث، تدور في بيئة تبدو واقعية، أما الفصل الرابع فقد تشفرت أحداثه في بنية غير واقعية، اعتمادا على ما كانت تشيّده ذاكرة كريم ناصر من عوالم غريبة تختلط فيها الوقائع مع التخيلات أثناء ما كان يرقد في المستشفى وهو يعاني من حالة غيبوبة وفقدان مؤقت للذاكرة، من بعد أن تورط باغتيال السائق حميد الذي كان مسؤولا عن رعاية أحلام والاهتمام بها، تنفيذا لوصية والدها الصحافي مازن قبل مقتله من قبل السيد جواد، وفي هذا الفصل تخلى المؤلف عن أي تحفظات واقعية في بناء أحداثه، واقترب في حبكته من ناحية تهديم الاشتراطات المنطقية التي تفصل ما بين الحلم والواقع، بناءً على حالة كريم الصحية التي ازدادت سوءا: «بات يختلط لديه الواقع بالحلم، والحقيقة بالخيال، ولم يعد قادرا على إدراك الحدود بين الأشياء، فتحولت شخصيات مسرحياته إلى بشر حقيقيين يتعامل معهم ويحاورهم ويعيش إلى جانبهم، وأخفقت المحاولات الطبية النفسية والسريرية لتجنيبه الدخول في مرحلة هذا الهوس، الذي ما انفكّ يترسخ في شخصه يوما بعد يوم».
جاء الفصل الرابع من حيث التوظيف الدرامي وكأنه مقاربة تقنية لمرحلة «الذروة» في سياق بنية العناصر الدرامية، التي ينبغي توفرها في مكونات النص المسرحي حسب ما حددها أرسطو، وقد اعتمد المؤلف في تأسيس رؤيته هذه على الحالة الذهنية التي انتهى إليها كريم ناصر.
ومن الناحية التقنية فإن مرحلة «الذروة « في البناء الأرسطي عادة ما تفضي إلى الحل الدرامي للعقدة، وفي رواية» القبّان» كان الفصل الرابع بمثابة «الذروة» الأرسطية، ليعقبها المشهد الأخير، إذ يُقدَّم كريم ناصر للمحاكمة بناء على ما اقترفه من جريمة بحق السائق حميد، ونجحت دفوعات المحامين الذين أوكلتهم أحلام للدفاع عنه في الحصول على تقارير طبية تؤكد وجود خلل عقلي في شخصيته، واستطاعوا إنقاذه من الإعدام ووضعه في حجز صحي تمهيدا لمعالجته، ومن ثم إعادة محاكمته في ضوء النتائج اللاحقة.

مغامرة سردية مركَّبة

ريبال محمد صابر عبيد في تجربته الروائية الأولى، بدأ بخزين معرفي وهو يمسك بأدواته في نسج خيوط السرد وتشييد خطابه، رغم صغر سنه إذ لم يتجاوز العشرين من عمره، ولعل الغرابة تكمن هنا، عندما نجد أنفسنا أمام رواية يقف خلفها مؤلف شاب، ما يزال يواصل دراسته في المرحلة الجامعية، وليس له من رصيد أدبي آخر غير هذا العمل، بالتالي سنكون مرغمين على أن نبحث عما ينفرد به من إمكانات فنية تميزه عن غيره في تشييد عوالم سردية متخيلة ومركبة، لا يجرؤ على اقتحامها إلاَّ من كان يحمل تجربة غنية، إضافة إلى استيعابه لناصية التقنيات وكيفية توظيفها في بناء وإنضاج خطاب السرد، وبما يشير إلى أنه قد جرّب كثيرا قبل أن ينحاز إلى نصه هذا، وليتجرأ على أن يقدم نفسه إلى القراء من خلاله.

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي