خطاب المرأة النقديُّ.. والخجل المعرفيُّ

2021-07-10

د. عقيل عبدالحسين 

بعد عقود من التفكير بدراسة المستوى اللسانيّ في السرد. وما يزيد على عقد من التفكير في دراسة النصوص بوصفها خطابات لا تُحلل إلا في سياقاتها، وإلا فيما صار يُعرف بمستوى فوق الجملة، صار هناك توجه إلى دراسة النقد لسانيّاً وخطابيّاً؛ فهو خطاب يستمد تفرده، وقوته التقييمية والاقناعية، من الصوغ.

ويكتسب قيمته من تأثيره في المجتمع وتأثره به. وهو، في الأحوال كلّها، مجال لتشكيل الهُويّة والمعرفة والأيديولوجيا.

أما المحاولات في هذا السبيل فلا تزال قليلة؛ إذ أكثر من يتعامل مع النقد إنّما ينصرف إلى مضامينه، فلا يخرج عن الدراسة التقليديّة المعروفة بنقد النقد.

والمحاولات المهمة أقلّ. وأزعم أنّ الدراسة، التي أنا بصدد عرضها، واحدة من الدراسات القليلة المهمة على هذا الطريق.

الهوية والآخر

والكتاب هو كتاب الباحثة المتفردة بأسلوب خاص في التفكير والاستنتاج ولاء إسماعيل. وعنوانه: خطاب المرأة النقديّ «دراسة في المتكلم والوظيفة»، صدر عن دار شهريار، 2021.

 وتبدي ولاء حذراً من النسويّ والنسويّة، فلا تذكرهما في العنوان، ناسِبةً الخطاب النقديّ، أي الكتابة النقديّة، إلى المرأة.

وهو شيء ستؤكده في طيات الكتاب، قائلة: إنّ النسويّة ليست من شأن هذا الكتاب. إنّه كتاب يُعنى بكتابة موضوعها النقد، منسوبة إلى المرأة. ومكمن الحذر الآخر في تحديد العنوان بالمتكلم. إنّه ليس حديثاً مفتوحاً عن الخطاب.

هو حديث عن عنصر من عناصره، أو من أهمها في النقد. ونحن نعرف أنّ الخطاب كلام يوجهه متكلم إلى سامع بقصد التأثير فيه أو إقناعه. وهل سيغيب طرفا الخطاب الآخران؟ لا. فهي، إجرائيا، تحلل المتكلم عبر الخطاب، أو الكلام المنسوب إليه في كتابه.

وستجعل المخاطَب عاملاً من عوامل الكتابة النقديّة: برهاناً وترتيباً للحجج واستدلالاً؛ فلا كلام من غير مخاطَب يتوجه إليه. ولكنّها توسّع المخاطَب ليشمل القارئ ومحلِل الخطاب، فعلى عاتق الأخير يقع فك شفرات الخطاب، وتفسير طبيعة لغته الشارحة، وما تتضمنه من إحالات إلى الهوية والآخر، ومن إعادة تشكيل للمعرفة.

وهذه العبارات الثلاث الأخيرة ستكون مدار فصول الكتاب الثلاثة الممتعة لغة ووصفاً، الثرية تحليلاً والتفاتاً إلى دقائق الخطاب ومضمراته ونواياه.  

المتغيّر والآنيّ

أما الفصل الأول فعن الهوية، أي عن الطريقة التي تتشكل فيها سمات المتكلم الفكرية، ويكتسب وجوده الخطابيّ، ومن بعدُ سلطته الخطابيّة، وقدرته على الحكم والفصل.

وتلك تأتي من العودة إلى الوقائع، وتثبيتها في الخطاب، فنازك الملائكة في كتابها عن قضايا الشعر المعاصر، تتحدث عن ريادتها في الشعر الحرّ.

وذلك يؤهلها لما تدعوه التقنين الذي رأته ضروريّاً، بعد عقود من الكتابة في الشعر الحرّ أوصلته إلى الفوضى. وتأتي، أي الهوية، من وصل الذات الخطابية بالمكان والزمان، فرضوى عاشور، وهي من أكثر الناقدات اهتماماً بالمكان والزمان- ذلك لأنّها تنتمي إلى المقاومين المتمسكين بالأرض والتاريخ ربّما! - تقول في مداخلتها عن خرافيّة سرايا بنت الغول، الواردة في كتابها «صيادو الذاكرة»: المكان كلية الآداب، جامعة القاهرة. الزمان، فبراير، 1992.

سأقول: إنّها ظاهرة لافتة أنْ تُظهر المرأة في كتابتها تمسكاً بالزمان والمكان، ظاهرة تجعل لها هوية مختلفة عن الكاتب الذكر؛ فهي أقرب إلى المتغيّر والآنيّ، منها إلى المثاليّ الذي يتميّز به التفكير الذكوريّ.

وسيُنتج ذلك خطاباً مختلِفاً: معنى وصوغاً، أكثر التزاماً وأكثر تفاصيلية. والطريقة الثالثة من طرائق تشكيل هوية المتكلم، استعراض السيرة النقديّة في الخطاب. يظهر ذلك عند رضوى عاشور في «صيادو الذاكرة»، وتضمنه شهادات منها: تجربتي في الكتابة، وجدتي وأمي والكتاب.

وعند عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ»، وتتحدّث عن إشكالية القديم والجديد عبر الحديث عن حياتها الجامعية. وعند بشرى موسى صالح في «المفكرة النقديّة»، و«منطق كالحرير جلال الخياط ناقداً»، وتصف فيهما تأثير أساتذتها في توجهها إلى النقد وعكوفها عليه.

وعند نادية العزاوي في كتابها «من تجليات الذاكرة»، وفيه تتحدث عن علي جواد الطاهر، ومحسن غياض، وغيرهما.

وإذ ترى ولاء أن هذا الحديث يعزز وجود وظيفة الهويّة التي تجعل المتكلم الخطابيّ يتطابق مع المتكلم الواقعيّ، فإنّي أرى أنّه يعزز سلطة المتكلم الخطابيّ الذي يحتاج، بوصفه امرأة بحسب نسبة الكتاب الخارجيّة، إلى ما يجعل أحكامه ووجهات نظره مقبولة ومقنعة.

 وهو الإيتوس الأرسطي الذي أحسنت المؤلفة توظيفه، في الفصل، ويعني ما يتصل بالمتكلم، مما يسبق الخطاب، ويعزز قوته.

المعرفة والأيديولوجيا

تكاد تنصرف ولاء إسماعيل في فصلي الكتاب الآخرين إلى الخطاب؛ لأنّها تناقش في الفصل الثاني المعرفة، وفي الثالث الايدولوجيا. وهما يتصلان بالمتكلم، صاحب الأهليّة.

وتخصص الفصل الثاني للتعدد الصوتيّ، المصطلح الباختينيّ، الذي يحيل على خطاب الآخرين داخل الكتاب.

وقد حظي المصطلح بعناية من لدن منظري التحليل النقدي للخطاب؛ فالخطاب أصوات وتبادل للكلام. وعند الباحثة أنّه يحضر في نقد المرأة. إنّه تساندي، أي إنّها تستحضر أصوات النقاد الآخرين لتستند عليها في إنتاج المعرفة في حقل معرفيّ هو النقد.

ولكن يظل أنّ من خصائص نقد المرأة، طريقتها الخاصة في التعامل مع الأصوات النقديّة في كتابها؛ فهي قد تتحرر من التنصيص ـــ وهو الشيء الذي تفعله ولاء في تماهٍ ذكيّ مع خطاب بنات جنسها ـــ وتصير إلى الدخول الحرّ في نص الصوت المُستحضَر، والتلاعب بألفاظه، وترميمه بما ينسجم مع غايتها.

وهنا تصير المعرفة مُصاغَة ومُقدَمة عبر المتكلم، ويصير فيها بعدٌ غير البعد العلميّ المُصرَح به، يتصل بالمرأة، ويتوخاه التحليل النقديّ، ذلك هو الانحياز للأقليّة الثقافيّة.

 وعليّ أنْ أسارع إلى القول إنّ ولاء تركت الاستنتاج الأخير، فهو مني، والتزمت بالتوصيف الحياديّ لمنطوقات الخطاب وطرائق تشكله.

في الفصل الأخير يذهب الكتاب إلى ما يدعوه التحاور. وهو استدعاء للآخر، مع نية دحضه، أو رده؛ لذا أراه يدخل في البعد الثالث من أبعاد الخطاب، ألا وهو الأيديولوجيا.

 وأراه، أيضا، أقرب إلى النسويّة، وإنْ لم تقل المؤلفة ذلك، على الأقل في نماذجه؛ فنحن في هذا الفصل أمام ناقدات نسويات صريحات، مثل بثينة شعبان وكتابها «مئة عام من الرواية النسويّة العربيّة»، وفيه تدعو إلى ضرورة إنتاج خطاب المساواة والخروج من نسق الهيمنة الذكورية.

 ومثل زليخة أبو ريشة وكتابها «اللغة الغائبة نحو لغة غير جنسوية». وحتى مع غير هذه النماذج التي ذكرتُ. ووردت في الفصل. وفي الحالات كلّها تتجه الذات المتكلمة إلى استدعاء الصوت الآخر الذكوريّ، غالباً، لنقده ودحض دعواه، في مسعى لإعادة تشكيل الأيديولوجيا. وما كان ذلك ليكون من دون بعدي الهوية والمعرفة، اللذين تخصص فيهما الفصلان الأول والثاني.

الخجل المعرفي

سأختم مقالتي بما أسمته ولاء إسماعيل: «الخجل المعرفي». وبه تصف الحضور الأنثويّ الشاحب في النقد، في موازاة الحضور الذكوريّ الطاغي، وهي تنسبه إلى الكاتبات؛ فهن ترددن في الحضور ذوات فاعلات داخل الخطاب النقديّ.

وأقول إنّه، ربّما، خجل يتصل بالكتابة التي تستقصي الخطابات النقديّة، لا بالخطابات ذاتها؛ فقد ظلت عاجزة بأدواتها وطرائقها التقليديّة في الرصد والمتابعة، اللذين لم يتخطيا التاريخ والمضامين، عن الغور في طبقات الكتابة العميقة، واستخراج ما انطوت عليه من جرأة نقدية فذة، تتمتع بها الناقدة، ومن معرفة أصيلة متفردة.

 ويكفي، للتدليل على ما للمرأة من حضور نقديّ وثقافيّ، من توقف عندهن الكتاب، هذا، من أسماء مثل رضوى عاشور ونادية العزاوي وفاطمة المحسن وغيرهن. وكلّهن متفردات لغة ورؤية ومواقف. وأقول، أيضاً، إنّ هذا الكتاب الفصيح، كتاب «خطاب المرأة النقديّ»، لهو بداية التغلب على ذلك الخجل المعرفيّ. 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي