هل لقصيدةِ النثر مستقبل في الشعرية العربية؟

2021-07-07

عاطف محمد عبد المجيد*


يستهل الشاعر والمترجم شربل داغر كتابه «القصيدة والزمن.. الخروج من الواحدية التمامية» الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة، بمقدمة يقول فيها، إن كتابه هذا يتكفل بفحص علاقة اللزوم التي يجدها متحققة بين القصيدة والزمن، وهو ما يدرسه في أبنية القصيدة العربية، الحديثة خصوصا، متبينا أشكال الترابط بين زمنيتها وعلامة حداثتها، أو عصريتها، كما قيل عن أول شِعر مجدِّد في الحقبة المتأخرة، أي في ستينيات القرن التاسع عشر.


لقد بنى داغر كتابه على فحص علاقة القصيدة بالزمن الاجتماعي غداة الحرب العالمية الثانية، في تجربة الشاعر نزار قباني، وعلى فحص علاقة القصيدة بالزمن السياسي، وهو ما يعالجه داغر في تجربة الشاعر أدونيس الحزبية، وتأثرها بالقصيدة السورية القومية الاجتماعية، مع مؤسسها وزعيمها أنطون سعادة، وعلى

فحص علاقة القصيدة بالزمن الفردي، وهو ما يعالجه في قصيدة تمثل الوجه الأشد لهذه العلاقة مع الزمن: القصيدة بالنثر، إذ إنها قصيدة مدينية المنبت والتوجه، وإن تتعين في ما سماه جبران خليل جبران بـ»مجتمع الانفراد» أي انصراف الشاعر لذاته أو لها مع غيره، بين تخيل واشتهاء وتموقع وسرد.

القصيدة الحديثة

داغر يرى أن فحص هذه الأوجه لا يستقيم من دون درس ما يقوله الخطاب نفسه عن هذه العلاقة، وهذا ما يطلب معالجته في علاقة الفصاحة بالحداثة، حيث إن الفصاحة أبطلت بمعنى ما، أو باعدت بين اللغة والزمن، طالما أنها أقامت «عتبة» للكلام العربي.

ثم يتساءل: هل استمرت القصيدة الحديثة في التأكد مما يدخلها ويبنيها، ومما تتقبله وتتأبّاه؟ أتعايش فعلا ما يقوله البعض عن «فصاحة مستجدة» فيها؟ وهذا ما يعالجه داغر حين يتوقف أمام تجربة الشاعر أنسي الحاج، في تنازعها بين الجسد واللغة، متمثلًا في التنازع بين المحكي والمكتوب.

داغر يرى أن فصول كتابه المختلفة توقفت أمام القصيدة العربية الحديثة، غير أنه توسع في أحد فصوله متجهاً صوب القصيدة القديمة في الشعر العباسي، وقد أراد من وراء ذلك أن يمتحن أمرين متلازمين: هل يصح في بعض الشعر العربي القديم، على الأقل، ما يصح في حديثه، أي كون القصيدة شفافة لزمنها؟ وماذا عن علاقة النوع الشعري بالزمن نفسه، طالما أنه قيل إن النوع، القديم حصرا، يمتنع عن أن يكون متأثراً بالضرورة بحدوثات الزمن وتغيراته.

ويكمل داغر في هذا السياق فيقول قد يكون السؤال عن القصيدة والزمن سؤالا عما يمكن أن تكون عليه القصيدة بين كونها صنيعا «كتابيّاً» من جهة، وكونها فعلًا «إنسانيًّا» من جهة ثانية. كون القصيدة صنيعا يجعلها تتقيد بأساليب وقواعد ترتضيها أو تحورها، أو تنقضها، في ما تبحث وتبني غيرها.

وكونها فعلا يجعلها تحاور وتأمل وتنهي وتشجع، وغيرها من الأفعال التي تومئ القصيدة إليها أو تدعو إليها صراحة.

شعرية القصيدة

يرى داغر أن كتابه هذا ينحاز إلى مقاربات تلتقي خصوصا مع مناهج الفلسفة والاجتماع والسياسات، لكن ابتداءً من فحص شِعرية القصيدة. كذلك يؤكد أنه ابتعد هنا عن الجانب التحقيبي، من دون أن يغيب المسار التاريخي فيه، بين شعر غداة الحرب العالمية الثانية وتجريبيات متأخرة للنثر في الشعر، وهذا ما يطلبه الكتاب من وقوف على علاقة الشعر بزمنه التاريخي والاجتماعي والفردي والسياسي.

داغر يُسمي فصل كتابه الأول بـ»مع نزار قباني.. بلوغ القصيدة المدينة» ويبدأه بشطر شعري لنزار يقول فيه (إذا قيل عني «أحس» كفاني).

ثم يقول إنه اختار دراسة شعر نزار قباني انطلاقاً من مجموعته الأولى «قالت لي السمراء» التي صدرت عام 1944، وقد استند اعتماده على هذه المجموعة إلى قراءة حدسية بداية، وبعدها تأكد من أن هذه المجموعة قابلة، في مستويات تعبيرها المختلفة، لأن تعين تكوين الصنيع الشعري عند قباني و»اقتصاده» الشعري.

وقد خَلُص داغر إلى أن القصيدة تَمثُل للقارئ كما للناقد في هيئتين: هيئة بصرية، أي الصيغة الطباعية المظهرية، وهو شأن ناشئ في الشعر نفسه، وقد عمد الشعراء إليه في أزمنة متأخرة، بعد توافر «عدة» طباعية مميزة قابلة لتمييز مواد القصيدة في ظهورها العيني للقارئ.

ثم هناك هيئة لغوية أو لفظية، ذلك أن القصيدة تَمْثُل للناقد، لا في معناها، بل في هيئة لفظية، نحوية في المقام الأول، وهو ما أكدت عليه الدراسات البنيوية بدورها في تشديدها على أن الدخول إلى عالم النص، إلى عناصره المختلفة، إلى علاقاته، غير ممكن في صورة سليمة، إلا انطلاقاً من مبناه اللغوي، من مواده (أصوات.. ألفاظ…) ومن علاقاته التركيبية.

خيار أول

لقد توصل داغر إلى أن قصائد قباني تخضع لطريقة معينة، لخيار أول، يُملي عليها بعض أسباب التعالق النحوي، في الجملة الواحدة، بين الجمل وفي مجموع القصيدة. داغر يقصد بالخيار الأول أن القصيدة تنطلق من قصْد في التعبير من موضوع في تقطيعات محددة له، من خطة في التأليف، من دون أن نعلم ما إذا كان

الخيار هذا سابقاً على لحظة إنتاج القصيدة، أو متضمنا في عمليات إنتاجها، وهو خيار يقوم على ابتكار الزاوية، كما يقال في لغة التصوير، كالحديث عن الحب من خلال خاتم الخطوبة، أو رافعة النهد أو القرط الطويل أو غيرها، أو يقوم الخيار على التقاط الموضوع في لحظة حية، كما يقال في لغة السينما، كالحديث عن الحب في لحظة التقاء شخصين في مقهى، أو عند سير إحدى الجميلات في أحد الشوارع وغيرها.

ثم يضيف داغر أن النصوص الشعرية باتت لها حدود تبدأ بها وتنتهي إليها، وهي حدود جلية في قصائد قباني منذ مجموعته الأولى. هي قصيدة لا تبدأ من مكان غائم، أو شديد الالتباس، ولا تنتقل انتقالات مباغتة.

مستقبل قصيدة النثر

داغر يُسمي الفصل الثالث من كتابه بـ»ابتداء الشعر من الشاعر، ابتداء القصيدة من الكتابة» ويبدأه بتساؤل يقول فيه: ما مستقبل القصيدة بالنثر؟ وبعده يصف هذه القصيدة بأنها غريبة وصادمة للشعر وللشعرية العربيتين، وإذا كانت هذه القصيدة قد قُبلت في فرنسا موطنها الأول، كما في تجارب أوروبية أخرى، فذلك يعود إلى سهولة دخولها إلى الشعر والشعرية الفرنسيتين، بفعل وجود أشكال مختلفة للقصيدة.

يكمل داغر كذلك قائلًا إن القصيدة بالنثر تبدت في عالم العربية لا في إضافة تنويع في الشكل، بل خروجا على الشعر والقصيدة في آن.

فهي النوع الكتابي الجديد الذي فصل في الشعرية العربية بين الشعر والقصيدة، وبين القصيدة والقالب العروضي وبين القالب العروضي والإيقاع، وبين الإيقاع والحروف، هي قصيدة تنتسب إلى النقائض، إذ تشير في مبناها التركيبي إلى الشيء وعكسه في آن، وهو ما يصعب على البعض قبوله في العربية، لاسيما من اعتاد منهم على النظام والاتساق سبيلين للتعرف على الأشكال الفنية والجمالية.

بعد ذلك يعود داغر فيقول: كيف الحديث عن مستقبلها وماضيها مطوي من دون تفقد، وحاضرها ما يزال محل «حَوْربة» في غالبه؟ إنها قصيدة من دون أصل، وإن تعرف سلفها البعيد أمين الريحاني على شعر وولت وايتمان، وسلفها القريب أنسي الحاج على شعر بودلير ورامبو والسيرياليين الفرنسيين.

لقد نشأت من دون مرجع كذلك، وإن لاك البعض طويلا كلام سوزان برنار، التي لم تعرف ترجمة لكتابها ذائع الصيت، إلا في السنوات الأخيرة. ويكمل داغر في هذا الاتجاه فيقول إن غياب الأصل والمرجع يعني الحرية، والتأسيس غير المبدوء، أي يعني التمشي في مشاع اللغة والكتابة.

لهذا قد تكون هذه القصيدة أكثر طبيعية «في تدلالها على الإنشائية والتعبيرية العربيتين أكثر من أي أسلوب وتجربة أخرى. هذا ويميل داغر إلى القول إن القصيدة بالنثر في الكتابة العربية هي أكثر من نوع، إذ تعيّن كيانا، بل ميدانا شعريّا وكتابيّا أغنى من أن يتعين في شكل ثابت أو في قواعد تم إقرارها. وفي هذا تكمن حرية هذه القصيدة التي تبلغ حدود التيه.

وهي القابلية التي لها في أن تكون في ما لا تكون، أن تكون هي نفسها، وغيرها، في آن، أن تتقدم في ما تتراجع أو تغور أو تتمدد، أن تتقدم لكن بالعروض، في ما تنبني في بعض القصائد تتابعيّا، تراكميّا، مثلما تصب القصيدة العمودية.

ونهاية يكتب داغر قائلًا: ما أخلص إليه هو أن القصيدة بالنثر تولدت في السياق عينه الذي تولدت فيه تجارب أخرى، ومنها وآخرها قصيدة التفعيلة. وبالتالي بات الحديث مضحكا عن قصيدة متأصلة وأخرى ربيبة الاستعمار! لكن ألهذه القصيدة مستقبل في عالم الشعرية العربية؟ وهذا بالطبع ما سوف يجيب عنه المقبل من السنين دون سواه.

 

*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي