في ذكرى رحيل جين أوستن: وقفة مع رواية «مانسفيلد بارك»

2021-06-27

مولود بن زادي*

يزخر الأدب الإنكليزي بأقلام نقشت أسماءها في سجل التاريخ، عبر حقبة زمنية طويلة، ممتدة من عهد جيفري تشوسر، أب الأدب الإنكليزي ومؤسس لغته، إلى يومنا هذا.

ومع زخم هذه الأقلام، تظل بعض الأسماء حاضرة في كل زمان ومكان، على منوال وليم شكسبير وتشارلز ديكنز وأجاثا كريستي وجين أوستن، التي يحيي البريطانيون وعشاقها في أرجاء العالم ذكرى وفاتها الموافقة لـ18 يوليو/تموز 1817.

أيقونة الأدب الإنكليزي

قال عنها وولوش رئيس قسم اللغة الإنكليزية: «أوستن واحدة من أكبر الشخصيات الأدبية باللغة الإنكليزية، وهي الآن مثل شكسبير، اسم له ركائزه المتينة».

وولوش، الذي صرف شطرا من حياته في دراسة آثار أوستن، والاعتماد عليها في التدريس لاحقا، وصفها بأنها فائقة الذكاء، سابقة لزمانها. وقد تجلى ذكاؤها وعبقريتها في قدرتها الفائقة على الإبداع والمساهمة في التجديد.

فقد كانت من الأوائل الذين استخدموا الخطاب الحر غير المباشر في الكتابة، وهو أسلوب السرد بضمير الغائب. كان هذا النمط في بداية نشأته، ليشهد بعد ذلك انتشارا واسعا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.

شهرتها بعد وفاتها

اللافت للانتباه في سيرة جين أوستن أنها لم تنل شهرتها إلا بعد رحيلها. كتبت جين أوستن باسم مستعار تردد في كل رواياتها: «بقلم امرأةٍ».

بعد وفاتها في عام 1817، نشر لها شقيقها هنري كتاب «إقناع» وكتاب «دير نورثانجر» كاشفا للعالم هويتها لأول مرة. لكنّ النجاح الذي عرفته مؤلفاتها في البداية ظل محدودا، وانقطع نشر مؤلفاتها لسنوات طويلة بعد ذلك. ولم تزداد شعبيتها إلا بعد أن نشر ابن أخيها «مذكرات جين أوستن» عام 1870.

وقد ساهم تحويل بعض مؤلفاتها إلى أعمال سينمائية، على منوال «كبرياء وتحامل» في زيادة شهرتها. لكن ما لا يعلمه كثيرون هو أن أوستن لم تحقق شهرتها الحقيقية إلا في أربعينيات القرن الماضي.

رواية «مانسفيلد بارك»

لم تؤلف جين أوستن في مشوارها الأدبي إلا ست روايات كاملة، أبرزها «كبرياء وتحامل» التي ساهمت في زيادة شهرتها العالمية بعد تحويلها إلى عمل سينمائي. ويبقى مؤلفها الثالث «مانسفيلد بارك» الرواية الأكثر جدلا في سجلها.

تروي قصة فتاة من وسط فقير تدعي (فاني برايس) تُرسل للعيش مع خالتها وزوجها وأطفالهما الأربعة في منطقة مانسفيلد بارك.

يسيء جميعهم معاملتها عدا إدموند. فاني فتاة صغيرة وخجولة، تتابع عن قرب ما يجري حولها في هذا الوسط الأرستقراطي الذي تحلّ فيه في وقت لاحق شخصيتان مهمتان هنري وماري كروفورد.

هنري يغازل كل من جوليا وماريا، على الرغم من خطوبة ماريا. وفي وقت لاحق ينفرد بمغازلة ماريا، فيمتلئ قلب جوليا غيرة وحسدا واكتئابا. فاني من جهتها تقع في غرام إدموند وتكتم مشاعرها لسنوات طويلة. فتتعرض لاحقا للصدمة والألم عندما تراه مستغرقا في علاقة رومانسية مع ماري.

اختارت أوستن نهاية سعيدة لقصتها، ففي آخر المطاف، يستفيق إدموند من غفلته ويتزوج فاني ويعيش معها في مانسفيلد في راحة وهناء.

ردة فعل الجماهير

حققت رواية «مانسفيلد بارك» نجاحا آنيا على غرار رواياتها الأخرى، حيث نفدت الطبعة الأولى في ظرف ستة أسابيع ونفدت بعدها الطبعة الثانية. لكنها لم تحظ بالاستحسان الذي لقيته مؤلفاتها الأخرى، وهي إلى يومنا هذا تعدُّ الرواية الأكثر إثارة للجدل والأقل شعبية في سجل الكاتبة الإنكليزية؟ كثير من قراء

أوستن الذين فُتنوا بـ»العقل والعاطفة» 1811 و»كبرياء وتحامل» 1813، عبروا عن خيبة أملهم عندما قرأوا روايتها الثالثة، لأنها لم ترق إلى مستوى الفكاهة والمتعة اللتين ألفاهما في رواية «كبرياء وتحامل» والدور الخجول الذي لعبته البطلة المفضلة (فاني).

جين أوستن نفسها اعترفت بذلك، إذا قالت إنّ رواية «مانسفيلد بارك» «لم تحمل من المتعة نصف ما حملته رواية (كبرياء وتحامل)»

خيبة الأمل

لرصد انطباعات الجماهير المعبرة عن أسفها – على وجه الخصوص القراء الشباب – نتوقف في موقع (جودريدز) وهو أكبر شبكة عالمية لتقييم الأعمال الأدبية، يشارك فيها الكاتب والقارئ باعتباره شريكا أساسيا في العملية الأدبية، حيث تقول إحدى القارئات ملخصة هذا الموقف السلبي تجاه الكتاب، «بعد أن قرأت جميع كتب أوستن عدا «إيما» فإني الآن أجد «مانسفيلد بارك» مملًا للغاية.

أجد خجل البطلة (فاني) قد تجاوز كل الحدود، وأنّ تعلّقها بـ(إدموند) أشبه بوقوع فتاة صغيرة في حب معلمها، وأنّ الآنسة (كروفورد) لا تبدو سيئة إلى تلك الدرجة التي صورت بها في تلك الفصول. مع أني من عشاق أوستن، لا أعتقد أن هذا الكتاب سيكون ضمن قائمتي المفضلة».

تتردد هذه المواقف والانطباعات أيضا في الأوساط الأدبية والثقافية، فقد قالت عنها كونستانس جرادي، كاتبة أدبية في صحيفة «فوكس» «لم يكن هذا الكتاب أبداً من الأعمال المفضلة لدي شخصياً: إنه كتاب غامض بشكل غريب. لم أحب مانسفيلد بارك أبدا، لكنه يستحق الإعجاب».

ونلمس مثل هذه الآراء حتى ضمن أفراد أسرة الكاتبة! قالت عنها شقيقتها الكبرى كاساندرا إليزابيث أوستن، «أعتقد أن الرواية ذكية للغاية وإن لم تكن رائعة تماما».

الواقعية الأدبية

ينشد القارئ دائما المتعة والتسلية، وهو ما وفرته له أوستن في رواياتها السابقة، غير أنها اختارت منحى آخر في روايتها الجديدة التي أرادتها أن تكون مرتبطة بالحياة الاجتماعية وأقرب إلى الواقع. أوستن اختارت شخصية فاني الخجولة والمنطوية على نفسها، وكان من نتائج هذه المبادرة فشلها في ترك أثر جمالي في نفس القارئ، مقارنة مع كتاباتها السابقة.

لكن، ما الذي جعلها تتوخى نموذجا أكثر واقعية وجدية، مكلفا من حيث الشعبية؟ لعلَّ ما يفسر هذا المنحنى هو أنَّ أوستن كانت في أواخر الثلاثينيات من عمرها عندما فرغت من كتابة هذه الرواية التي استغرق إنجازها سنتين.

فكان هذا العمل تعبيرا صادقا عن وعيها، وانعكاسا لانشغالاتها وميولها، وما بلغته من نضج وحكمة في هذه المرحلة من عمرها.

جدير بالذكر أنّ مؤلفات أوستن، وإن صورت مشاهد متعة وجنس إلاّ أنها لم تخلُ أبدا من الواقعية. كانت من الذين وضعوا حجر الأساس لتشييد صرح الواقعية الأدبية، تلك الحركة الواعية المعارضة للرومانسية، التي انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر، وانتمى إليها كُتَّاب كبار من أمثال تشارلز ديكنز وليو تولستوي وجورج إليوت.

فضلا عن رصد الواقع، اللافت للانتباه في أعمال أوستن الطابع الكوميدي وقدرة الكاتبة الفائقة على تصوير الشخصيات وعلاقاتها وتفاعلها بكل واقعية وتفصيل.

التفاوت الطبقي

رواية «مانسفيلد بارك» بلورة تصور ووعي جديدين في الأدب، وترجمة للواقع وما يحمله من صراعات وتناقضات. فعبر فصول هذه الرواية – التي جاءت مختلفة عن رواية «كبرياء وتحامل» – أثارت أوستن جملة من المسائل كالتفاوت الطبقي، والفضيلة والرذيلة، والقوة والضعف، والحياء والوقاحة، والواقع والوهم، والعلاقات الأسرية والزوجية وما تحمله من توترات ومآس. بطلة القصة فاني، رغم ما تعرضت له من انتقادات، فقد لعبت دورا أساسيا في تصوير هذا الواقع.

فهذه الفتاة الخجولة الصامتة المنعزلة اجتماعيا وثقافيا عن عالم مانسفيلد بارك من حولها، في واقع الأمر منظار نشاهد من خلال عدسته وسطا مضطربا، متفاوت الطبقات والأحوال الاجتماعية، يركض فيه الأبطال وراء المكانة والنفوذ والثروة والمتعة على حساب مبادئهم وأخلاقهم وسعادتهم الشخصية.

وهكذا على الرغم من الجدل الذي أفرزه الكتاب وأثره السلبي في المتلقي، فإنّ هذا العمل ينفرد بكونه الأكثر ارتباطا بالواقع، ترصد فيه الكاتبة الإنكليزية الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله وتعرجاته، وأفراحه وأتراحه، وخيره وشره، وتصوّر فيه الصراعات الاجتماعية وإفرازاتها على الفرد.

تصور لنا هذا العالم المتناقض من خلال عيني شخصية (فاني) الفتاة الفقيرة والخجولة والمنطوية على نفسها. وتثور فيه على العلاقات الأسرية والزوجية القائمة على الاحتيال ومخادعة الذات والمصلحة والرذيلة، على حساب المشاعر الصادقة والقيم السمحة والأخلاق.

وهكذا تكون الكاتبة من خلال إحدى أصدق رواياتها وأكثرها التصاقا بالواقع المعيش قد صاغت مجمل تساؤلاتها، وعبّرت عن مختلف مشاغلها وهمومها ورُؤاها النابعة عن وعي ونضج وحكمة بعد أن بلغت أواخر الثلاثينيات من عمرها.

 

  • كاتب جزائري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي