أحبُّ هذه المرآة المتكسّرة

2021-06-25

عمل لـ إبراهيم جوابرة

أحمد الأمين*

 

يدٌ غيرُ كافية

 

في المدرسة

عايرني الصّغارُ بأصابعي القصيرة

قالوا إنّ يديّ صغيرتان

لا تكفيان لحملِ كُرةٍ أو شدّ حبل،

صغيرتان على اللّعب

لاحقاً

عندما كبرتُ

عرفتُ أنّ يديَّ لا تكفيان،

لأصطحبَ يديكِ في نزهة أو

لأسرّحَ شعرَكِ حينَ يأخذُكِ التّعب.

...

يدايَ صغيرتان جداً

على النّجاة

الإمساكِ بحبالِ الهواء

والتّلويحِ بسلامٍ أخيرْ.

 

■ ■ ■

 

حارسُ البراويز

(إلى أبي)

 

أريدُ ساعةً إضافيّةً

أُهرّبُ فيها الأشياءَ من البراويز

ضحكةَ أمّي في الصّورة

فستانَها الأحمر

شرودَ أبي الدّائم

خوفَهُ الظاهرَ رغمَ الابتسامة

خوفُ الآباءِ ندبةٌ لا تُمحى.

...

أذكرُ أنّه في زمنٍ ما

كُنّا عائلة

وكانَ ثمّة فرحٌ رفيع

يجمعُ عيونَنا،

وأذكرُ أنّني قفزتُ في زمنٍ آخرَ

هكذا

كمن يقفزُ من برجٍ عالٍ

واثقًا أنّه لن يرتطم.

...

 

حفرةٌ منَ الوحدةِ والكلامِ القليل

هذا أنا يا أبي

وجهٌ شاحبٌ ينظرُ إلى صورة

أنا

حارسُ البراويزِ الذي لا يتعب

أنتظرُ رجوعَ لحظاتٍ زائلة.

 

■ ■ ■

 

فتاة القارّة البعيدة

(إلى "ميم")

 

غداً

ينتهي بكِ الأمرُ

في قارةٍ بعيدة

محيطان

وملايينُ الحيواتِ بيننا

غداً عندما تستلقينَ

تحتَ السّماء في الجهةِ المقابلة

سينقبضُ قلبي

وأفركُ رأسي محاولاً التذكُّر،

شكل شعرِكِ إذ يبلّلهُ الماء

وشكل عينيكِ بعد قبلةٍ طويلة،

سأقضي بقيّةَ يومي

قابضاً على رائحتكِ

بكلّ ما أملكُ من حُبّ.

كلُّ ذلكَ غداً

عندما تختفينَ في القارّة البعيدة.

 

■ ■ ■

 

مرآة متكسّرة

 

أحبُّ المرايا القديمَة.

في بيتِ جدّي

أقفُ أمامَ المرآةِ فوقَ المغسَلة

أُفكّرُ أنّ صورَتي تبدو أجملَ فوق الخدوش

لا أدري السببَ لكنّني

أتذكّرُ كلامَ صديقةٍ قبلَ سنين:

إنّنا نكرهُ ذواتِنا ونحبُّها حسب المرايا التي نكبُرُ معها.

...

أتذكّرُ كلامَها جيّداً:

كلُّ مراياكَ كانتْ مُحطّمة.

الأولادُ في المدرسة، المعلمونَ والعائلة

جميعُهم قذفوها بحجارتهم وهربوا.

طفولةٌ مهشّمة.

أعيدُ جمعَ أجزائها المتناثرة

أفكرُ أنّني أحبُّ انعكاسيَ الآن

أحبُّ هذه المرآة المتكسّرة

يُسمّونَها الطّفولة.

 

■ ■ ■

 

كلّ هذا الحزن

 

نرثُ كلَّ شيء

العيونَ والقامات

الخيبة والانكسار،

كلّ شيء.

أتذكرُ عينيك يا أبي

غيّر الوقتُ كلّ ملامحكَ

ولم يفعلْ شيئاً في عينيكَ،

يرسو الحزنُ في العيون،

كخاتمٍ في قاع البحر

ورثتُ كل خواتمكَ،

ليسَ ثمّة تفسيرٌ آخر،

وإلّا من أينَ يأتي كلّ هذا الحزن؟

 

■ ■ ■

 

حديثٌ طويل

لا أعرفُ كيفَ يقولُ النّاس ما بهم. كيفَ يجدونَ مفرداتٍ على قياسهم. تعوّدتُ على السّكوت حتّى كادَ فمي يختفي. أمّي تقولُ إنّني لمْ أنطِق كلمةً حتّى بلغْتُ الرّابعة، وبعدها، تكلّمتُ دفعةً واحدة.

لا أعرفُ كيفَ أفسّرُ لكلّ هؤلاء، أنّني غيرُ راغبٍ في قول شيء. ليست لديَّ أقوال أخرى. كيف أشرح ذلك بلا عناء. الصمتُ أحلى يقولُ المستوحدونَ. الصّمتُ أحلى يقولُ الراحلونَ بلا كلمات أخيرة.

لا أريدُ أنْ أحكي. يدكِ الّتي تشدّين بها على أصابعي إذ نتصافح، لا تحتاجُ إلى الشرح. هكذا أفهم أكثر. أعرفُ كلَّ ما تريدينَ قولهُ في الثّواني القليلة الّتي تتشابكُ فيها أيدينا.

يدُكِ الضئيلةُ حديثٌ طويلْ.

 

  • شاعر من لبنان

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي