القُصَيْصة الومضة في مجموعة "فقط" للمغربي المصطفى كليتي

2021-06-18

أسامة الصغير*

أَرْسى الكاتب المصطفى كليتي مجموعتَه القصصية على أربعِ مسلات فنية، واختار لها عنوان «فقـط» ثم وسَمَها على مستوى التجنيس باسم قُصَيْصَات.

هذا الكاتب المُقْتَصِد القاصِدُ، يتّكئ على القُصَيْصة الومضة، كما الوخز الجمالي بالإبَر والكبسولات القصصية القارصة. إنه يترك في المتلقي تلك الدهشة التي تُوَلِّدها القَوْلةُ والشّذْرة والمَثلُ المأثور، يقول العميقَ بالرشيق، والكثيرَ بالقليل، كاتب ينحت المعنى الجديد، تارَةً عبر العبارة المتداوَلة، ويجعله يَنْضَح بالشعرية العالية، وتارَةً عبر المُفردة اللغوية الرصينة، ويجعله يرتقي منزلةً جماليةً أعلى وأجلى. إنه يمنح اللغة دهشة وألقا، وينثر العِبَر حتى يمتزج النثري بالشعري، وتتكامل وسائل التعبير الجمالي يُوَحِّدُها التخييلُ ولغةُ الإبداع.

المِسَلّة الفنية الأولى: مسامع القلـب

في هذه المِسَلّة تَثْرَى غنائيات الحب والتذاوت، بين الذوات العاشقة، في ما قد نُسَمّيه حلول الناسوت في الناسوت، ويَنْضَحُ من الٌقُصَيْصات رهان الوصال والحب، باعتباره الأرض الخصبة للقيم النبيلة، وهو حب لا يخلو من إيروتيكية تحتفي بلُغة الجسد، كما أن العين القاصة راصدةٌ لحواريات الأنثى والذكر، في أكثر من موقف، وأكثر من مشهد، فهي قُصَيْصات تحتفي من جهةٍ بالجمالي في ثنائيات الحب وتذُمّ من جهة أخرى كل ما يَنَقُض الوصال ويخدش الجمال الحقّ.

أما على مستوى المنظور السردي، فإنه يأتي تارة بضمير المتكلم، وتارة أخرى يأتي بضمير الغائب، لكن الرهان الموضوعاتي يظل نفسه حتى مع تَعَدُّد الضمائر والمنظورات، وما تلك إلا تنويعات فنّية لمقُول قَصَصِي ناظم، مقول يَمَتَحُ من المَحْكيات التراثية الشعبية مثل الغُولة، عيشة قنديشة، ليلت، سلطانة. إنه بهذه الاستدعاءات يَسْتَنْبِتُ قُصَيْصات الأُضمومة في تربة الذاكرة الشعبية والمِخيال الجمعي للأمة.

وحين يتملّى القاصُّ المصطفى كليتي فعلَ الكتابة وشَغَفَها، فإنه يكتب قُصَيْصَةً بعنوان «فلتة» حيث تَفْلِتُ شخصيةٌ فاتنةٌ من النص إلى الواقع، تُراوِدُ الكاتب عن نفسه، لكنه من فرط وَلَعِه بها أَعْرَضَ عنها، ودعاها أن تبقى طَيَّ الصفحات حتى لا تلوِّثَها «تلاوين الحياة، ثم أغلق المسودة». والملاحَظ في هذا المقام الفني أن الشخوص القصصية تكون أحيانا حيوانات، وتجري العِبَرُ منها وبها، وهو ما يُشكّل تناصا مع العديد من النصوص الكلاسيكية، التي أَجْرَت الحكمة والعِبْرة على لسان المخلوقات الحيوانية، نذكرُ من ذلك، «كليلة ودمنة» في نسخته العربية لابن المقفع، «كتاب الحيوان» لأبي عثمان الجاحظ، «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، وغيرهم.

«س» شاهد عيان

في هذه المِسَلّة الفنية، يصير رمزُ أو حرفُ «س» شخصية محورية في كل قُصَيْصات هذا الجزء من المجموعة. إنه كناية عن الشخصية المَمْحوَّة المَمْحُوقة، ذلك الكائن الهش المُستضعف، هو رجل طاحونة اليومي الكادح أمام الانكسارات والآمال المسحوقة، تَعْرِضِه التقاطاتُ كاميرا راصدة لمشاهد الحياة اليومية، بآهاتها الجوانية والبرانية. وممّا لا مُراء فيه أن اختيار حرف «س» فقط، حَمّال رسائل ومقاصد، بحيث إن هذا الشخص امّحى حتى لم يَبْقَ من كَيْنُونَتِه إلا حرف من اسمه، وهو أيضا ليس شخصا بِعَيْنِه وهُوِيَّته، وإنما حرفٌ مُجردٌ يرمز إلى كل كائن مسحوق، إنه الشاهد والشهيد.

زوم على تلك الشجون

هنا تنفَتحُ نصوصُ هذه المِسَلّة الفنية على مشاهد متفرقة من شجون المجتمع، من قبيل الحرمان، التخلف الاجتماعي، الخيبات، بل يطالعُنا خيالٌ جموحٌ في بعض القصص السيريالية، التي تطفح بالمُفارقة والنقائض الصارخة، حتى إنها أحيانا تصطخب بالبكاء المُضْحِك والضحك المُبْكي. وجديرٌ بالإشارة أنها مِسَلّة فنية تقترب في مادَّتِها من نصوص المِسَلّة الفنية الثانية التي خصّصها الكاتبُ لشخصية «س».

أخبار عن الحاكـم بأمر الله

في هذه المِسَلّة الفنية الرابعة، يُفتَح كتابُ سيكولوجية السلطة والحُكم، باستحضار شخصياتٍ من التاريخ الإنساني ارتبطت بشهوة الحكم، من ذلك على سبيل الذكر كليوباترا، الحجاج، نيرون، هيروس. من هنا جاءت القُصَيْصات لاقطة فظاعات سلطة الحكم والبطش، والقسوة، كأنما ليقول المُؤلف إن بنية تاريخ السلطة واحدة وإنْ بأسماء متعددة.

إجمال القـول

في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا، يتأكد بالمقروء الملموس أن القاص المغربي المصطفى كليتي يُشيِّد عالمَه القصصي برؤية ومثابَرة مُتَّئِدة واستشرافية، لا تخلو من مغامرة جمالية.

 

  • كاتب مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي