"ترجمة العلوم الإنسانية": في الحاجة إلى الكتاب الجماعي

2021-06-12

من سلسلة "زفت لاند"، هاني زعرب (زفت وأغصان ومواد مختلفة على قماش)

شوقي بن حسن

توجد أسئلة وإشكاليات يعسر على باحث أن يقاربها بمفرده، إذ ستكون إجابته محكومة بحدود معرفته وثوابت اختصاصه ومرجعيات ثقافته. وهنا تظهر أهمّية الكتب الجماعية، بما هي جهاز ثقافي (حديث نسبياً) يتيح ملامسة قضايا كبرى تتجاوز القدرة الفردية، كما يعيد النظر في ما جرى تناوله سابقاً من زوايا متعدّدة عابرة للتخصّصات والثقافات، بما في ذلك من مرونة وتناغم مع تضخّم المعرفة وتشعّبها.

تحضرنا هذه الحاجة إلى الكتاب الجماعي حين نقف أمام موضوع كتاب "ترجمة العلوم الإنسانية" (منشورات "كلاسيك غارنييه"، باريس، 2021) تحت إشراف تاتيانا ميلياريسي وكريستيان بيرنر، فلا أحد يستطيع اليوم - بمفرده - أن يجمع بين مختلف العلوم الإنسانية، من الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا، ناهيك عن القدرة على متابعة تنقّلات أفكار هذه المعارف بين اللغات.

هذا الوضع هو ما جعل البحث في ترجمة العلوم الإنسانية موضوعاً منسياً ضمن حقل دراسات الترجمة مقابل تنشّط الأبحاث في ترجمة الأعمال الشعرية والسردية، وكذلك بخصوص ترجمة العلوم الطبيعية والتقنية، أي إن العلوم الإنسانية بقيت بين هذه المجالات كمنطقة وسطى مهجورة، في حين أن كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والمنظّرين في التاريخ والتربية تمثّل كمّية وازنة من مجموع المؤلفات التي تتبادلها الثقافات في ما بينها عبر قناة الترجمة.

   

لا تزال الروابط المنهجية غائبة في محتوى الكتب الجماعية العربية

يجمع كتاب "ترجمة العلوم الإنسانية" مساهمات باحثين من حقول اللسانيات والفلسفة والتاريخ والأدب، كما يقترح نقداً إبستيمولوجياً لمجال ترجمة العلوم الإنسانية رغم فقر الإنتاج ضمنه، حيث إن المشاركين في العمل قد توقّفوا عند الخصوصيات النظرية الممكنة لهذا المجال، وحاولوا اكتشاف ما يُميّزه عن أنواع الترجمة الأخرى، وحدود الاشتغال فيه.

من ذلك ما يطرحه الباحث مارك دولاناي في مقاله "صدام المنهجيات"، حيث يشير إلى معضلة أن يكون ناقل العمل من الاختصاص، فتغيب عنه دُربة المترجم، أو يكون مترجماً محترفاً فتخفى عنه لطائف المعرفة المتخصّصة.

هذا النوع من الإشكاليات تدرسه الباحثة إيلينا نارديلي من خلال ترجمة نصوص الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى لغات مثل الفرنسية والإنكليزية، وهي لغات ثقافات كانت معادية لثقافة النص الأصلي، وهو ما يخلق حالات من الالتباس وتشويش المعنى وتدجينه لضرورات الثقافة التي يذهب إليها النص المترجم.

تتناول بقية دراسات الكتاب قضايا متنوّعة مثل الاعتماد على مخرجات حقل التأويلية لتطوير ترجمة العلوم الإنسانية (بحث لـ راديغونديس ستولزه)، وقضايا ترجمة علوم اللسانيات بين ثقافات متباعدة مثل الفرنسية واليابانية (ري تاكوشي كليمون).

على تباعدها، يمكن أن نلاحظ - ومنذ مقدّمة الكتاب - الطموح لبناء خيوط منهجية ناظمة بين مختلف الدراسات. طموح تحقّق إلى حد كبير على مستوى ملامسة نقاط متباعدة في شبكة المعرفة العالمية، لكنه توقّف عند حدود اللغات الأوروبية فلم ينفتح على قضايا وإشكاليات في ثقافات مختلفة.

من تحصيل الحاصل أن تغيب الثقافة العربية عن هذه المشاريع، فإشكالياتها ضمن مبحث ترجمة العلوم الإنسانية مختلفة تماماً عمّا يدرسه المشاركون في هذا الكتاب. ولعلّ رأس أولويات العربية اليوم هو اللحاق بما تُتنجه العقول ضمن العلوم الإنسانية، وتمثّل الترجمة الأداة الأنجع لذلك. انشغال لا يمكن أن يتصدّى له إلّا أهل العربية أنفسهم، وهو أفق تفكير جماعي لا نجد له اليوم ما يحتاجه من اكتراث بحثيّ.

لقد ظهرت في الثقافة العربية خلال السنوات الأخيرة موجة من الكتب الجماعية، لكن يغلب على معظمها تجميع أوراق الندوات والمؤتمرات، وما يخرج عن ذلك تغيب عنه - في الغالب - الروابط المنهجية، وقبل ذلك الروح الجامعة لكل مكوّنات المشروع.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي