كمال القاضي*
بعد الخسارة التي مُنيت بها الدراما المصرية الرمضانية، واختلال حسابات الإنتاج والأرباح، في ظل سياسة الاحتكار وتركيز كل القوة الإنتاجية في يد مُنتج واحد، أسفرت النتائج عن مُقترحات سريعة لحل الأزمة بالعودة إلى إنتاج المُسلسلات ذات التكلفة المحدودة، التي تتراوح حلقاتها ما بين سبع حلقات وخمس عشرة حلقة على الأكثر.
وفي سياق الاستعداد لهذه الخطوة، جرت مباحثات مطولة بين القطاعات الإنتاجية المُدمجة، والجهة شبه الرسمية التي تتولى منذ فترة غير قليلة إنتاج معظم الأعمال التي يتم عرضها في المواسم الرسمية، وهو الأمر الذي أدى من وجهة نظر المراقبين الاقتصاديين إلى تفاقم الأزمة، حيث فرضت الجهة الإنتاجية الوحيدة نفوذها بالكامل على التخصصات كافة، فصارت مسؤولة دون غيرها عن عملية الإنتاج والتوزيع واختيار النصوص
والنجوم، والأبطال المساعدين والكُتاب والمخرجين بشكل مركزي شديد الإحكام، ما أدى إلى فقدان التنوع الدرامي وضعف المستوى العام للموضوعات والقضايا المطروحة، واللجوء إلى الإثارة والإغراق في المحلية الشديدة، والبعد عن كل ما هو جاد، مراعاة للسوق وإتباعاً لهوى الطبقات الشعبية ذات المستوى الثقافي المحدود، في تماثل واضح مع موجة أفلام المقاولات، التي كانت سائدة في فترة السبعينيات، وأدت إلى كوارث
ثقافية واجتماعية، وتسببت في انتشار الأعمال الاستهلاكية والتجارية الرخيصة، قبل ظهور جيل الثمانينيات من الكُتاب والمخرجين الذين حاولوا تغيير الصورة السينمائية القبيحة، والعودة بها إلى ما كانت عليه في فترة الخمسينيات والستينيات، حيث مراحل الزهو والقوة.
وما أشبه الليلة بالبارحة فما حدث في زمن سينما المقاولات، يحدث الآن في الدراما التلفزيونية بالتفاصيل نفسها، فلم تعد القيمة هي المُستهدفة، وإنما بات التركيز الأساسي على جمع العائد، وحصد الأرباح مهما كانت الآثار السلبية المُترتبة على ذلك، وهو أمر يُرجعه أهل الخبرة إلى تخلي أصحاب المهنة الأصليين من كُتاب ومخرجين وفنيين وممثلين عن مهنتهم وتركها إلى الهواة من أنصاف الموهوبين والسماسرة وبقايا الانفتاحيين القدامى، الذين نبتت جذورهم في سبعينيات القرن الماضي، وضربت في عمق التربة المصرية بكل طبقاتها الجيولوجية، فكان لها هذا التأثير المخيف على كل مناحي الحياة، وفي القلب منها الثقافة، كمكون إنساني وحضاري مهم.
لقد خرج الحصاد الدرامي المصري بأسوأ نتائجه الفنية والاقتصادية هذا العام، فأغلب الأعمال جاءت دون المستوى، والقليل منها فقط هو ما ارتقى للمستوى المرضي نسبياً، وعليه فقد تحتم تغيير الخريطة الإنتاجية وإعادة مقاييسها للحد من فوضى الاستنزاف المالي، وتوقف إهدار رؤوس الأموال بغير طائل، ومن المُنتظر أن يتبع هذه الخطوة وقف التعامل مع بعض الكُتاب والمخرجين والنجوم خلال المواسم المقبلة، لاسيما المسؤولين
عن الأعمال التي كانت أكثر فجاجة، ولم ترتكن إلى أي قيمة فنية أو اجتماعية، ولم يُشر إليها بأي من دلائل التميز والاعتبار، سواء من الجمهور أو النقاد، ولعلها كانت الأبرز في العينات الاستهلاكية للإنتاج والتكلفة، إذ حصل نجومها على أجور مبالغ فيها، وفي النهاية لم تصل أرقام العائدات الربحية منها إلى نصف التكلفة،
حسب الأرقام الإحصائية الحقيقية والمُتحفظ عليها، وفق ما ذكره بعض خبراء السوق والتوزيع، الذي أكدوا أن مسلسل «نسل الأغراب» على سبيل المثال جمع بين نجمين تم الرهان عليهما بشكل أساسي كأصحاب تجارب ناجحة إلى حد ما، وتقاضيا أجوراً متميزة، وفي نهاية المطاف لم تأت النتائج مرضيه، لا على المستوى الفني ولا على أي مستوى آخر.
وكذلك خابت الآمال في نوعيات مماثلة من دراما الجنوب، وغيرها كمسلسل «كل ما نفترق» ومسلسل «ملوك الجدعنة» و«لحم غزال» و«كوفيد 25» وطاشت كل سهام التنشين على القيمة الربحية المأمولة، وبقيت الخسارة وحدها هي العلامة التجارية الواضحة، الدالة على فشل الموسم الرمضاني بامتياز.
تبقى إشكالية النجوم الاعتياديين في المواسم الدرامية، هي المُعضلة التي يبحث لها صُناع الفن والإبداع عن حل، فهناك من يرى ضرورة تغيير الوجوه المُستهلكة، واستبدالها بوجوه جديدة مع دخول عناصر ثقيلة من نجوم الصف الأول الكبار للدعم والتقوية وتوفير عوامل الجذب، خاصة أن هناك من اكتفى منهم بتقديم الإعلانات طوال شهر رمضان، لعدم وجود فرصة مناسبة لتقديم عمل فني متميز، ومن أبرز هؤلاء ليلى علوي
ومحمد هنيدي، غير أن البعض الآخر رفض فكرة الاستثمار الإعلاني لموهبته واكتفى بالقليل المُتاح من الأفلام السينمائية، التي تأتي كل فترة على استحياء كمحمود حميدة وحسين فهمي وميرفت أمين، بوصفهم آخر جيل الكبار، أما البقية الباقية فقد اختفت نهائياً من المشهد، بفعل الإحباط واليأس وكان حرياً بهم الاستمرار والظهور والتألق، وهم كُثر كعبلة كامل وعفاف شعيب وعبد العزيز مخيون وصبري عبد المنعم ونبيل نور الدين، وطابور طويل ممتد من نجوم الشاشة الصغيرة والكبيرة.
القضية الدرامية الاقتصادية باتت شبة مُعقدة، وتحتاج للمزيد من الدراسة والتدقيق، قبل استفحال الخطر واستنزاف ما تبقى من طاقة، حتى لا يحدث فراغ كامل للمحتوى والمضمون، وتخرج العملية الحسابية من يد المتخصصين، فلا نملك حينها إلا التباكي على المجد الفائت في دراما الزمن القديم، أو الزمن الجميل كما يحلو للبعض أن يقول من باب التصبر أو المماحكة في الماضي الذي كان.