السخرية وأثرُ بذرة المشمش .. بين أفلام إيليا سليمان وفيديوهات القدس

2021-05-26

 سليم البيك*

في المشهد الأخير من فيلمه «إن شئت كما في السماء» يتأمل إيليا سليمان، في بارٍ في فلسطين، جالساً إلى الكونتوار وكأس العرق أمامه، يتأمل جيلاً جديداً من الفلسطينيين، يتقافزون في ساحة الرقص ويغنون «عربيٌ أنا…».

أتى المشهد ختامياً لرحلة الشخصية الرئيسية في الفيلم، سليمان نفسه، بين الناصرة وباريس ونيويورك، وقد عاد إلى الناصرة ليجد جيلاً جديداً، يقدم مفهوماً متجدداً للمقاومة، يقدم تعريفاً حديثاً لمعنى أن يقاوم أهلٌ أصليون في أرضهم، استعماراً استثنائياً في طبيعته وفي شره، كما هي حالة إسرائيل، تتطلب تنويعاً وإبداعاً وتجديداً مستمراً في أساليب مقاومته المتفاوتة بين الداخل والضفة والقطاع والقدس. وهذا ما شاهدناه على الشاشات في الأيام الأخيرة.

يتأمل سليمان هذا الجيل، وقد تنحى جانباً ليراقبه، بعد رحلته الطويلة بين المدن الثلاث (وأفلامه الثلاثة السابقة) ليعود إلى مكانه الأول، يتأملهم تاركاً لهم الساحة (ساحة الرقص) ليعبروا عن انتمائهم (الوطني) بأسلوبهم «الثوري». عن هذا الجيل قال سليمان في مقابلة كنتُ أجريتها معه (رمان الثقافية1/10/2019) إنه «ينظر إلى جيل لم يعد جيله، لكنه يرى مقاومةً».

هذا الشكل الجديد من المقاومة ليس منفصلاً عن الأشكال الكلاسيكية، هو مكمل لها، هو نسختها في الاستراحات ما بين المعارك، فالجيل ذاته ينزل إلى الساحات في أوقاتها، وهو ما رأيناه في كل فلسطين، متناغماً مع أشكال المقاومة كافة، مهما تباينت، كتلك (العسكرية) في غزة.

 هذا المشهد «السليماني» لم يأتِ، هو كذلك، منفصلاً عن سياقاتٍ مقاوِمة في مَشاهد كثيرة، عبَرت أفلامَه الطويلة السابقة، ثلاثتها، تمر علينا كمَشاهد حية واقعية، اليوم، تُصور من تليفونات وتنتشر على الإنترنت، مشاهد تذهب في سخريتها إلى أقصاها، كملاحقة الجندي للبالونات في السماء، وجر جنود لجريح معتقَل (كأنه من يجرهم) يرفع علامة النصر، ومفارقات عديدة تحمل إحالات مزدوجة هنا، فهي تنسخُ مشهداً (أو روح مشهدٍ) من أحد أفلام سليمان كما تنقل، بالدقة ذاتها، مشهداً من واقع الفلسطينيين.

مَشاهد أخرى قد يختلط، لاحقاً، الأمر علينا حيالها، إن كنا رأيناها كفيديو انتشر خلال الاشتباك في الأيام الأخيرة (أو للدقة: في كل الأيام) أو أن ذاكرتنا قد أودعتها في ما يمكن أن نكون قد شاهدناه في واحد من أفلام سليمان.

 هذا التماهي في السخرية، كما هي في الواقع، وكما هي في السينما، في أسلوب المقاومة وفي جيلها، تخلل الأفلام الثلاثة «سجل اختفاء» و«يد إلهية» و«الزمن الباقي» ليصل إلى فيلمه الرابع بمشهده الختامي المكمل، لحالة المقاومة لدى أفراد جيل لا فواصل عندهم بين السخرية العنيدة والضحك الدائم.

مشهد من فيلم (يد إلهية)

أحد هؤلاء يُدخله شرطيون إسرائيليون إلى سيارة مكبلاً، يمد رأسه ليستوقفهم للحظة، ليقدم ملاحظة هادئة كأنه يذكرهم بحقيقة فاتتهم، بأن الشرطة كلها على «…».

 آخر يسوقه الجنود، معتقَلاً، إلى سيارتهم، يفتح الباب الأمامي مفضلاً الجلوس بجانب السائق. آخرون، وقد يكون هذا الأحدث، إذ انتشر مع إعلان الهدنة، وهو بمكانة الانتصار للفلسطينيين، في صمودهم ومقاومتهم، مقدسيون يكبرون هاتفين جماعةً، رافعين أصابعهم الوسطى في والوجوه الكالحة لشرطة الاحتلال، ومن المسافة صفر إذ تكاد الأصابع تعوِرهم، وباليد الأخرى يحملون تليفوناتهم لتصوير هذا المشهد بمفارقته الساخرة.

المقاومة لدى هذا الجيل صارت أسلوب حياة، ليس الكلام هنا عن انقلاب الحياة إلى مقاومة، بل المقاومة إلى حياة، يمارسها هؤلاء في يومياتهم كما يعيشونها، وفي الرقص والغناء، كما شاهدناها كذلك في الفيديوهات التي وصلت من الداخل الفلسطيني يوم «إضراب الكرامة» في 19 أيار/مايو، وتماماً كما صورها سليمان في مشهده الختامي، إذ يتأملهم و»يرى مقاومة» هي استمرارية لتصويره لهم في أفلامه السابقة، إذ تكون السخريةُ وعاديةُ ابتكارها أمام الجندي/الشرطي وعليه، الحياةَ اليومية، كما هي، بتلقائيتها، وانسجامها في حياة الفلسطيني.

الأفلام الأربعة لسليمان، وبتراكم 25 عاماً، ساهمت أخيراً في تشكيل الوعي الساخر لدى الجيل الجديد، الذي رأى فيها لذة السخرية من ناحية، وإيلامها من الناحية الأخرى. تماماً كبذرة المشمش التي رماها سليمان من سيارته على دبابة إسرائيلية فتفجرت (غيظاً).

 

  • كاتب فلسطيني

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي