قصيدتان - عبدالناصر مجلي*

2021-05-17

من هنا سيمر الغزاة


من هنا سيمرُّ الغزاة إلى مبتغاهم من جميع
اتجاهات القلب المفتوحة على احتمالات متعددة اللغات
يحملون ذكرياتهم وبارود حروبهم القادمة
وعندما يطأون بأحذيتهم زهو صباحاتنا
سيذكرون النساء اللواتي تركوهن خلفهم يغزلن قطن الانتظار
من هناك من أقرب نقطة لخط استواء الروح
سيأتي الغزاة ليفجروا في وجوهنا الخضراء أفعالهم المُرّة عن الموت
سطوراً وحشية من إصحاح هولهم الهمجي
وسيتركون مرارات ريحهم الغريبة في صدورنا
ويحرثون أرض أحلامنا المقدسة.
سيأتون ليعلموننا كيف نموت قريري الأعين ساكني الفجيعة
ملوحين لهم رجال العصف المأكول بمناديل
رعبنا الحضاري المهندم الذي منحوه لنا عن طيب خاطر
ولذلك
سنمنحهم دموع الأمهات التي يريدونها
وقوارير دمائنا الثمينة
ليصنعوا كرنفالاتهم على جثثنا اليابسة
كي تكتمل صورة المشهد باهية براقة
في تاريخهم المفتول من حبال أصواتنا الصقيلة الأنين
و "النحنُ" نحنُ " النحن"
سنعلمهم مقالة العطاء من أجسادنا وسنصنع من عظام قتلانا
نايات وفخاخاً مرصودة بالتعاويذ لا تخطئ أبدانهم المعطرة
بالحنين إلى أرض خلفوها في ذاكرتهم المضيئة بالقتيل.
سنعلمهم كيف يقتلوننا ونحن فاغرو الأعين نابضو الأفئدة
سيمرون مدججين بأعلامهم وموسيقى جنائزهم
في حروب السموم الخارجة من أضابير تاريخ مصاب بانهيار عصبي
سيدركون حينها أن بغداد أو بيروت أو ربما وجه البحر عدن
مدن مخاتلة لا تهادن الغريب .
سيأتون مثل قصة حقيقية لا أصل لها
مزنرين بحقد يتلبسهم كمثل لعنة أيقظتها أحقاد الحقب
وبحراب التكنولوجيا المُشفَّرة
وبرسائل أمهاتهم أمام مواقد الشتاء
وهواجسهم المبلولة بنار الخوف
يسبقهم دعاؤهن بالنصر على أمهاتنا صانعات الخبز والمواويل.
سيمرون ونحن نحن لا نبرح متاريس موتنا المباح
ظهرنا إلى ظهر إله قديم لا يخون
وسننشد مواويلنا في حضرة الغزو المعصرن
وسنباشر نساءنا كبشر يعزفون قصائد الحب كل حين
ونحصد سلالاتنا من الأجداث والأصلاب.
سيأتون
ونحن معزوفة سبأية في ليل الهزائم لا تموت
وهم هم
طلقات عمياء في وجه طفولة الزمرد.
منهم زعقاتهم المدبلجة جيداً وراء سطوة الفولاذ
ومنَّا حكايات جداتنا عن الحب بعد كل صلاة
لهم سلاسل البرونز ولنا زهر البراري وابتسام الشذروان
وهم هم
ونحن نحن
لونان من نار وماء.
سيأتون ليحرقوا سوالف صبحنا الغساني بأغنياتهم العجماء
وسنمنحهم أجساداً لا تعرف الموت
أجساداً دُربت تاريخاً طويلاً على الاشتعال
تحت كذب الوقائع ومكر الرماد.
سيأتون ويذهبون ريح خريف باردة
ونحن ربيع أزلي يطل على شرفة الحياة.
يأتون
ويذهبون
يأتون
ويموتون
كأعجاز نخل لا جذور لها في ساحاتنا العالية.


 حسناً يا آخر الغُزاة هيا نحتسي القهوة معاً 
حسنٌ يا آخر الغزاة في قبره المنسي هيا نحتسي القهوة معاً
ونمجُّ ما شاء لنا ملكوت التبغ من لفافات ثم نثرثر قليلاً
عن هذا الحزن الذي يزورنا خفيفاً كرائحة الياسمين
ويبقى محفوراً في الأفئدة مثل أغنية قديمة لا تُنسى
ولا بأس إن تصافحنا بالأيدي ونحن نمر أمام الباعة
الذين قتلوا الإنسان في كل مكان وطأته أقدامهم
وفي أماكن نسيتموها وظلت عالقة في أذهاننا.
المحاربون القدامى كما تسمونهم
والقتلة الممسوسين بالرعب الذين يشهدون
على بربريتكم المغلفة بورق الحضارة.
لكم ثكالاكم وصباحاتكم المنسية
وقتلاكم الذاهبون إلى قيامات مصنوعة على عجل
في بطون كلاب البحر وفي مجاهل غابات موشحة بأحزان الشعوب
لكم طريقتكم في صنع أكاليل المجد وتشييد أقواس النصر
على جثثنا ودكنا بدبابات إلهكم الحجري
ولنا - لن تستطيع سطوتكم أن تمنعنا من ذلك
لن تقدر على دك آخر الحصون في نفوسنا -
طريقتنا البدائية مثل عشب البراري في تمجيد سيوف أحزاننا المثلومة
وصنع مداميك بعثنا القادم من هباء الهباء.
ومع كل هذا فبيننا أشياء مشتركة
التبغ والقهوة
بسمة الأطفال ولون الدم
زُرقة السماء ومواعيد الغرام
ثَمَ طرق عديدة تؤدي إلى تصالح الأضداد واختلاف الأغاني
كأن أضع يدي على كتف عجوز تقرأ اسم عزيزٍ لها
ثبتته المنية على سواد لوحة القتلى التذكارية المرمر
لن أخبرها بكل الوجع الذي صنعه لنا فتاها الغالي
- لعله أنت -
سألتزم الصمت
لن أبتسم أمام النُصبْ المسروقة من نشيج آخر هندي
على هذه الأرض التي تمجد نصركم الميت
وسطوة القسوة ومنطق الحاسوب، وسأسأل
مَنْ قتل الآخر.. أنتم أم نحن،
ومَنْ زرع الرماد على شفاه الصغار
رمح المدافع عن تراب أجداده أم حديد البحر
وأقراش الأعالي التي تمطر النار؟!
لن تستطيعوا إجبارنا على النسيان
فذاك فوق فوق الفوق مما تحتمله أساطيركم
قد نسامحكم ذات يوم
لكن ليس قبل أن ينطق الدم ويعود قتلانا من الأجداث
ليس قبل أن تخضر الفصول في عيون اليتامى أو يعود أمس اليوم
أو تشرق الشمس من خبز أيامنا المحروق
لا خيار
التاريخ في مواجهة العمى
وسنرى!.


* شاعر وقاص وروائي يمني أمريكي
*من قصيدة طويلة بعنوان إفادات متأخرة من يوميات مليك منسي)
* اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل اسماعيل شموط







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي