التجربة وفلسفة الحياة

2021-05-14

فريدريك لونوار - ألفة يوسفكه يلان محمد*


لا تعوضُ النصوص والمدونات الفلسفية واقع الحياة، ولن تكون بديلاً للمغامرات الرامية إلى اكتشاف دروب غير مطروقة، والمعرفة الحقيقية هي فيض التجارب والاختبارات، ومُكابدة التحديات الناجمة من التحولات الذاتية والواقعية، على حد سواء.
إذن لا ينفصلُ الفكرُ من حيثيات الواقع الذي ينشأ فيه، كما يتشابكُ مع تفاصيل حياة صاحبه وأبعادها النفسية والتاريخية والاجتماعية، لذا فإنَّ ما يسردهُ الفلاسفة والمفكرون المعاصرون عن دور الفلسفة والمعطيات المعرفية في تنظيم حياة الإنسان واسلتهامه المبادئ المحكمة من المدارس الفلسفية، يأتي بموازاة استعادة التجربة الشخصية، وتراكم المُكتسبات على الصعيد الواقعي، ما يعني أنَّ التناول الفلسفي ينضجُ أكثر عندما يأتي في سياق متابعة المرء للمراحل التي تضيفُ إلى تكوينه الشخصي، مثلما ترى ذلك في مسلك المفكر الفرنسي فريدريك لونوار، إذ لا تغيبُ سيرته الشخصية في معالجته للمفاهيم الفلسفية ورحلته الاستكشافية لأعلام الفلسفة. هذا البعد الذاتي هو ما يتأسسُ عليه مشروع كتابه «المعجزة السبينوزية» كذلك الأمرُ بالنسبة لما صدر له بعنوان «قوة الفرح» إضافة إلى متابعة آراء الفلاسفة بشأن مفهوم الفرح، وعلاقته باللذة، بدءاً من الأبيقور مروراً بالرواقية والمذهب الهندوسي، وصولا إلى سبينوزا ونيتشه وبرغسون.
يتأملُ الكاتبُ محطات من حياته وما شهده خلال رحلاته من إمكانيات لانطلاقات جديدة، وفهم مسارات مختلفة في أنماط المعيشة، لكن ما يجمعُ بين التيارات باختلاف الخلفية الفكرية والبنية الاجتماعية هو، نشدان الفرح وهو عامل مؤكد للحياة وتجلِّ لقوتنا، حسب رأي المؤلف. فالفرح يعمقُ إحساسك بالوجود والسؤال الذي يطرحُه فريدريك لونوار، هل بوسعنا أن نؤسس لحكمة تستند لقوة الفرح؟ يعتمدُ الكاتبُ في دراسته لهذا الموضوع على مصادر الحكمة الشرقية والغربية، لافتاً إلى أن الفرح لم يشغل الفلاسفة كثيراً، لأن طابعه لا يمكن توقعه ومجاوز للحد. هذا لا يعني أنَّ الفرح لم يكن ضمن اهتمامات الفلاسفة على الإطلاق، بل لفتَ بعض من هؤلاء إلى هذا المفهوم، لعلَّ سبينوزا يكون في طليعة من ينزلهم لونوار في صف فلاسفة الفرح.

المجانية

الفرح بخلاف اللذة شعور مجاني يداهم الإنسان، دون أن يكون له تصور مسبق عن مصادره، إذ قد يكونُ الاستماع إلى مقطع موسيقى يبدلُ الأجواء ويغمرك بالفرح، لذلك فهو ما لا يمكن التنبوء به، وأيا كانت توقعاتك عن فريقك المفضل وثقتك بخبرته، ففوزه على غريمه يكونُ مفاجئاً بالنسبة إليك وهذا ما يزيدُ من حدة الفرح، إذن فإن هذا الشعور يتصفُ بالمكر والمراوغة لذا فضّل عددُ من الفلاسفة الانصراف إلى مفهوم السعادة بدلاً من الفرح.
يرى لونوار بأن ميشيل مونتاني هو من الدعاة الأوائل إلى إنشاء حياة سعيدة، وذلك يتحققُ من خلال الاهتمام بلذات بسيطة مثل الأكل والرقص والتجول، فبنظره تقوضُ الصراعات العقلية والتعقيدات الوجودية مبادئ السعادة، ويطالبُ بنشر الفرح وطرح الحزن بقدر ما نستيطع داعياً إلى التعرف على طبيعتنا، وتحديد ما ينفعُ تكويننا العقلي والنفسي، وبهذا نتمكنُ من اكتساب مزيد من فرص السعادة، ولا نقع في مطب محاكاة الآخر في نمط معيشتنا، طبعاً هذا الكلام يطابقُ نصيحة أرسطو لابنه.
يشيرُ الفيلسوف اليوناني في كتابه «الأخلاق إلى نيقو ماخوس» إلى وجود طبيعة خاصة لدى كل إنسان. يعقبُ لونوار على رأي أرسطو بقوله، إن الطريق الأمثل إلى معرفة النفس هي التأمل الذاتي، وملاحظة دوافعنا ورغباتنا، كما أنَّ بعض الأطعمة قد لا تناسبنا كذلك الحال مع بعض التصرفات، إذن معرفة الذات تسبق عملية النهوض العقلي وتحقيق السكينة الداخلية.
ويفتتحُ الكاتبُ القسم المعنون بـ«أن تصير ذاتك» من مؤلفه بمقولة لأحمد بن عطا الله السكندري، يوافقُ مضمونها مدلول عبارة أرسطو «اعرف نفسك بنفسك» أكثر الناس جهلا بنظر السكندري، من ترك ما يعرفه عن نفسه وذهب لرأي غيره. لأن كل كائن إنساني أعجوبة غريبة، على حد تعبير نيتشه. عليه يكرسُ فريدريك لونوار مساحة لآراء سبينوزا، إذ يعتبرُ فلسفته الأخلاقية فلسفة للفرح، فقد نحا صاحب «رسالة في اللاهوت والسياسة « ثنائية الخير والشر جانباً، وبدأَ بمراقبة السلوك البشري، لافتاً إلى أن كل شيء يسعى إلى الإستمرار في الحفاظ على وجوده وكيانه.
أما الحزن فهو نتيجة اصطدام الإنسان بالعقبات التي تثبط من قدرته على الفعل، وتحول دون مواصلة نموه. إذن فإنَّ الفرح هو انتقال المرء من كمال أقل إلى كمال أكبر. ولا يمكن الوصول برأي سبينوزا إلى الغبطة أو الفرح الدائم، دون التحرر من الأفكار الخاطئة وعبودية الأهواء، وما يجدرُ بالذكر هنا أن سبينوزا لا يرفضُ الرغبة، بل يؤكد على إعادة توجيه هذا المحرك الأساسي للحياة، وضرورة إدراك ما سيفرحك وما سيحزنك. والأهم في ما يذهبُ إليه سبينوزا أنَّ الإنسان يصيرُ حراً بعد مجهود عقلاني يهدفُ إلى معرفة الأسباب التي تقف وراء أهوائه وأفكاره.
فالفرح لدى نيتشه يوازي قوة الحياة، ويتولدُ الفرح عندما يكون الاحتفاء بالحياة منطقاً لتفكيرك، وتقول «نعم غير مشروطة للحياة حتى في جانبها السلبي والمؤلم». يعدُ نيتشه الفنَ نموذجاً للحياة الناجحة وعلى غرار رؤية نيتشه للفرح، يعتقدُ أن الحياة وجدت لتكون خلاقة، وينشأُ الفرح متزامناً مع النجاح وتحقيق الأهداف والإبداع .

كيمياء الفرح

يضمُ الكتاب إلى جانب مفردات فلسفية حول الفرح، عصارة لتأملات ذاتية واستبطان داخلي، كما ينفتحُ على الروحانيات والمرويات الدينية عن تجارب الشخصيات المؤثرة، إضافة إلى مسيرة الكاتب الشخصية، إذ بعد رحلته من الهند، وكان قد أمضى ثلاث سنوات في أحد الأديرة، كما خدم في إحدى دور المسنين في كالكوتا، التي أسستها الأم تريزا. يحددُ لونوار بناءً على معايشته للوقائع المختلفة ورصده لتجاربه الروحية والفكرية، عدة عناصر تضاعف الشعور بالفرح منها، الانتباه فما ينقصُ من القدرة على التمتع بالحياة، هو عدم الاهتمام باللحظة الراهنة والانشغال بما يخنقُ الذهن.
تذوق الفرح يتطلبُ صحوة الأحاسيس والتخلص من ركام الأفكار، التي تفسدُ مستويات الإدراك. كما أنَّ الحضور أيضاً يفجر طاقة الفرح، إذ يجبُ أن يكون الحضور بالقلب والروح والإحساس، وحسن النظر والاستماع والتذوق. يضيفُ الكاتب التأملُ، والمنح بلا مقابل والشكر، الثقة وانفتاح القلب إلى القواعد التي تحقق الفرح.
يشارُ إلى أنَّ ما يقدمه المفكر الفرنسي لونوار في كتابه يلتقي في خطوطه الأساسية مع مضمامين ما ألفته الباحثة والمفكرة التونسية ألفة يوسف بعنوان «وجه الله» والمتابعُ يلاحظ إعجاب الاثنين بسبينوزا، كما أنَّ المصادر التي تستمدُ منها صاحبة «حيرة مسلمة» متنوعة، ولا تنكفئ على الآراء الأحادية، كذلك الأمر لدى لونوار. صحيح أن ألفة يوسف تميل إلى الروحانية أكثر، معلنة عن تواصلها العميق مع التجربة الصوفية، لكن ما تتقاطع فيه مساحة اشتغال المفكرين هو، حضور التجربة الذاتية والاهتمام بقوة الرضا، وقيمة العمل والانفتاح على الآخر، والتخلص من وهم التحكم بكل شيء، أخيراً أن الحياة لدى الاثنين فرصة لاكتساب الشعور بالفرح، يقولُ كليمون روسيه «يجدُ الفرح الدائم جوهره في الفرح بالحياة وفيه فقط» وتلفتُ مؤلفة «والله أعلم» إلى أن الحياة بنظامها المحكم والمتناسق لا يمكن أن تخطئ بحقك.

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي