العابر

2021-05-14

جبار ياسين*

صدفةٌ أنْ أكون غريباً في بلادٍ بعيدة

صدفةٌ أنْ أكون هنا بينهم هذا النهار

وبينكم ذاتَ أمس مضى في الأثير.

صدفة أنْ أُحب النساءَ

وأعشقَ عطرَ المساء

وألوان قوس قزح

خلف سماء ماطرة محملة بطلعِ النخيل.

قبل سنين طويلة طويتها في الدفاتر

عشقت زهرة الرمان وبنت جارتنا سوياً

جمعت حُبينِ في لحظة واحدة

حينما كُنت طفلا يوازنُ جسمه

ماشياً على جدار الحديقة

عشقتُ غيوم الخريف في شهر أيلول

فأيلول شهر الغيوم القطن

ناصعةٌ كريشِ الملاك

تغير أشكالها كل لحظةٍ

فترسمُ فُلك نوحٍ على زُرقة الكون.

أقول علانية وبلا أسف

كل حياتي شَظف

رغم غابةَ البلوط حَولَ بيتي

أراها من نَوافذ غرفتي

والظباء التي تمرحُ في الحديقة

وجارتي الشَقراء ذات الثلاثين عاما

تبعث لي قُبلتَها في المساء

مُعطَرةً بماء شانيل

إني غريب وحَوليَ أغراب

غَريبٌ على نَفسي

غريبٌ تحتَ سَقف البيت

في سوق الأربعاء

وفي المَقهى المطل على الميناء

ليس لي إلا وطن في بياضِ السراب

وفي لَيلك الليلِ

حين التذكر يصنع الإيقاع والقافية.

بحبر الليل أكتب ذكرياتي

ورسائل عشقي والقصيدة

وفي النهار أصعدُ الرابية

أنظرُ ذكرياتي على السفح تسيل

لتجعلَ العُشبَ أخضرَ في وادي الذكريات

كي لا تجوع الأيائل وكي تتخفى القنافذ بين الصخور

ولا يمل العقاب من دورانه في السماء.

ما زلتُ أذكر أشلاء حُلمي تتناثرُ في الفضاء

نجوما فقدت البريق

زهورا ذابلة

وجوه الأصدقاء

منظر أبي يدخلُ الأفق تحت سماء ممطرة

يدي تمسكُ شال أُمي تحتَ شمسٍ كافرة

بقايا أُغنيةٍ

وكلبا صغيرا ينامُ فارشا قوائمه بالوصيد

لا أذكر يوم ولادتي لكني سمعتُ الحكاية..

ولدتُ على شاطئ دجلة فصرت غريباً

دَفعني الموج لأقصى الأقاصي

خَلف كل مكان قصي، مَدينة أقصى

ونَهرٌ ثم بحرٌ وميناء ومد وجزر

وامرأة

هكذا حتى حدود الأطلسي.

ماذا لو ولدتُ بين سيحون وجيحون

لأصير ولياً أو شاعراً يمدح الخمر

ويدرس أبراج الكواكب والنجوم،

أو ولدتُ في أزقة مومباي لأصيرَ فقيراً

على قارعة الطريق أمضغ قوت يومي

خَليطَ طَحين وتوابلَ مدراس

ولو ولدت في غرناطة لكنتُ مثل لوركا

أُحب الغجر ونغمة القيثار في ليالي الأندلس.

ماذا يكون لو ولدت بالمكسيك أو فيينا

أو في قريةٍ نائية في الغابة السوداء،

أو منعطف الطريق في مدخل باريس؟

لكني حين ولدتُ في شهر أيار

على جرفِ دجلة

جاءت فراشاتٌ عابرةٌ بلونِ القمر

ليحملن أجفان عيني

كي أرى ما لا يُرى

وأسمع ما لا تطيق آذان البشر

وأشم عطر البيجونيا في أقصى الجزر

وأن أهرب في غرة العمر نحو بلاد الشمال.

ليس عجيباً بعد هذا

أنْ أرى الأرض زرقاء

والسماء بلون القهوة اليمنية

والنساء بلون الزمرد

وانعكاس صورة وجهي في الماء

كأني من كواكب سانت أكزوبري.

آنَ لي أنْ أتخيل لَحظةَ التكوين

قبل الخلق وبعدَ الخلق

وصَرختي الأولى

وصدفة في ليلة من ليالي الخريف

أخذ الشوق أبي كي يبذرَ في رحمِ أُمي زرعه القادم

كي يحصدَ في شهر أيار ابناً شعره بلون القمح

يحب الشمس حين تغيب

كي يرى في الليل قناديل السماء

ويغرم في الصغيرة من بنات نعش.

يمسد شعرها ويناديها: أحبك نجمتي الأولى

أنت الأخيرة في الركب، وحيدة مثلي

لكني أحبك.

قد أكون هنا ساعة لكني قبلها كنت هناك

ربما ساعتين أو نصف نهار

ذهابا وأيابا بين مرجين

بين ضرعين

بين أرضين وبحرين لا يلتقيان

تحت سماء واحدة.

غريبٌ هنا وغريب هناك

حين أكون هنا يجرفني الحنين

وهناك يجرفني الحزن لماضٍ بعيد

لعظامِ أسلافي ونظرة أُمي

ووجه حبيبة في الصغر

نسيت اسمها منذ سنين.

قد أُبالغ حينما أمنح نفسي للكلام

وقد أُبالغ حين يلفني الصمت

أو حين تعانقني امرأة

فلا أسمع الريح ولا وقع قطرات المطر

بل أرى شجراً وأسمع كرواناً يغني

وأسمع دقات قلبينا

وشهقة الأنثى حين تفر الروح

والليل لي مركباً بلا صارية أو شراع

أبحر فيه على إيقاع أوتار الكمان

ونغم الناي

وحفيف السعف على جرف الفرات.

أسأل نفسي: لماذا تحب الشجر؟

هل لأن الشجر يعيش طويلاً

لأنه يطلق جذوره رغم الحجر؟

أم أنك تحب الظلال

تحب أوراقه في الخريف

لأن أباك يوماً ناسل أُمك في لياليه؟

لماذا تحب النساء وشِعرَ تميم بن مقبل؟

هل لأن الحجر يشبه الإنسان؟

أم لعمق السؤال؟

تمر الليالي دون جواب

مسبحة من الأسئلة

تلظم خرزاتها في المساء

وفي الفجر تنامُ وأوراق امتحانك فارغة

هل ستندم يوماً حينما تصل الأجوبة

لأن حياتك تصبح مثل الهباء

بلا سر ولا خطوة للأمام؟

تذكر خروجك، ذات صباح، من المدرسة

رأيتَ العصافير على سلك الكهرباء

تساءلتَ لماذا لم أكن واحداً منها

بلا واجبات، بلا حقيبةٍ في اليد

بلا سفر، كل عاشوراء للأولياء،

لكن سيارةً مرقت قريباً من ظلكَ

فنسيتَ الأسئلة

وعدتَ للبيت حزيناً

لأن العصافير ظلت هناك

تحت شمس صباح كانون

وأنت تعد ذرات الرمل بين ربعك الخالي

وصحراء التتار.

لا حقيقة على كوكب الأرض غير الفناء

وغير البناء وغير الشتات

لنهدم ما بنته الحضارات قبلنا

ونهدم برج بابل وزقورة أور

وبوابات طيسفون

لنبني بُرجاً من خشب لا يُضاهي حجراً

من جامع الخلفاء

ولا آجرةً من سور بغداد

ولدتُ هناك كي أرى ما لا يُرى

وأنْ أبقى بقية عمري أسيراً للحنين

وأنظر، عن بُعدٍ، مسير السنين

وأنظر نخلة في ساحةٍ في فالانسيا

أقول لها:

غريبة مثلي

لا أهل ولا وطن

على جذعِها الغض أعد سنين عمري

وأذكر لونَ الغروب ولونَ النخيل

حينما تغرقُ الشمسُ في ماء دجلة.

أقولُ مهلاً لنفسي

كأني أُسابق ريحاً،

مضى الأهل في سباق الريح

مضى الأصدقاء في مهب الريح

ومضت البلاد لعين العاصفة

فلا أثر للنهار

ولا وتر كي أزجي الليالي

والناي يعزفُ ما يريد حُزناً على الأحياء.

في ختام القصيدة ماذا أقول؟

لست بدوياً لأمدح خيمتي

وأثني على الأوتاد والقافلة

وحادي العيس.

لست ابن مدينةٍ لأمدح الطرقات والأرصفة

وأعلن عشقي للمقاهي والملاهي

والتماثيل التي تؤشر للجسور.

لست وريث الريف لأمرح في الحقول

على مُهرة من شرر

وأعد حبات قمحي غب الحصاد

وأُرمم الجداول وأشحذ نهايات المعاول.

الأرض لي محض طريق للعبور

لا حدود لها،

لا حقل لي غير أوراق الشجر،

غير الندى في الفجر على أوراق الزعفران..

وطني الليالي

ذكرى الغبار

حبات المطر

طعم التوت مغسولاً بماء النهر..

وطني الأبجدية

أذكر حروفها حرفاً فحرفاً

صوتاً فصوتاً

أذكر الكلمات يرسمها القصب

على طينِ السهل الرسوبي

وأذكر أول الحلم،

طفلا على فرسٍ تخب في أول الفَجر

تعبرُ خيطَ الأفقِ للمنفى،

وتظل عينُ الطفلِ تنظرُ للوراء،

نهرينِ مِن ألقٍ يصبانِ في بحرِ الخلود.

*شاعر عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي