سمفونية العبور في ديوان «من أي شيء» لرشيد المومني

2021-05-12

 

محمد العرابي*

يصمت الشاعر المغربي رشيد المومني كثيرا، ويظهر بعد سنوات، بتجربة شعرية جديدة، تضع مسافات فاصلة بين كتاب شعري وآخر، في حرص شديد على ألا يكرر نفسه ويمضغ كلماته ويلوكها، دون أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

وأول ما نلمس عن قرب أسلوبَه الفريد وطريقته الخاصة في صياغة جملته الشعرية، لكن يهمني أن أشير إلى مسألة أراها أساسية ربما في منحه تلك الميزة، التي لا نراها كثيرا عند غيره، وهي المتعلقة بالتقشف الكبير الذي يميز توقيعه لجملته الشعرية.

ينسحب هذا الأمر على كثير من أعماله الشعرية المتأخرة، التي قيض لي أن أطلع عليها. وإذا دققنا النظر في ديوانه الأخير «من أي شيء» الصادر بداية عام 2021 عن منشورات باب الحكمة، تطوان، نرى هذه النصوص المفرطة في الاقتصاد تقول لنا الأساسي في تجربة الشاعر وتسكت.

ومن خلال قراءة فاحصة لهذه الجمل القليلة، التي تتوزع في الغالب على رقعة الصفحة، وتجعل السطر الشعري في الغالب يتكون من كلمة واحدة، متبعة توزيعا بصريا مقصودا، من خلال هذا التدقيق، يتضح لنا أن هذه الجمل تعرضت لتعرية واعية ولاشتغال على نص أصلي كتبه الشاعر في حالة شعرية حرة يعرفها الجميع، مع فارق كبير: كثيرون يهرولون لنشر هذه الخواطر والانثيالات، دون روية وتمحيص للشوائب الكثيرة التي تسربت إلى نصوصهم بطريقة لاواعية، من قراءاتهم لآخرين، في ما يكتب رشيد المومني وينسى، ليعود إلى هذه النصوص بعد أشهر أو سنوات، ليعيد القراءة، لكن بعد أن يكون قد تخلص من الحالة الوجدانية والعاطفية، ويعيد الكتابة وهذه المرة بوعي يقظ ومسؤولية أكبر في بناء النص وعدم تركه في مهب المصادفات.

وهو ها هنا لم يكن يأتي بدعا، بل كان يعيد تفعيل نهج قديم عرفه شعراء الجاهلية بالحوليات.

ويتوزع ديوان «من أي شيء»  عبر حركات ثلاث: 1- من أي شيء. 2 – قمر بلا ليل. 3- فلك سان جون بيرس الضيقة، حيث تحتفظ كل حركة داخل هذه السمفونية المتموجة بإيقاعها الخاص بها.

وفي هذا الديوان يذهب الشاعر المغربي رشيد المومني أبعد قليلا، في قطع الجسور التي تربطه مع كل ما تعارفنا عليه من شعريات، ومن ممارسات كتابية في الشعرية المغربية، وحتى العربية، سواء ظهرت في نماذج تم توطينها وإرساء بعض ملامحها حتى غدا بالإمكان محاكاتها والنسج على منوالها، أو تلك التي ظهرت في نماذج استطاعت أن تتمنع على التنميط، وتخفي أسرار اشتغالها وفرادتها، لكن دون أن تستعصي بالكامل على الاستعادة ومحاولة ركوب موجتها: «لا/ ليس هذا القول لَونًا/ ليس جرْسا/ ليس ما تعاقدت عليه/ شرائع التوطين/ في كهف النهايات/ ولليقين أن يطمئن/ إلى سادر/ أوهامه الصغرى» لذلك بعد أن يمزِّق رشيد المومني كل الأوراق التي تشبه الآخرين، بل وتلك التي تشبه كل تحقُّق له، هو نفسه، في نصوص سابقة، سيسعى إلى إحراق الأطراس، التي لم تعد تشكل سوى ظلال من أنا غير مقيمة في أزمنة أو أمكنة محدَّدة.

«لَـمْلمْ أوراقكَ/ وامضِ بها/ إلى أول نار/ تلقاكَ». في كتابة متحركة كهذه تأكل بعضها بعضا كنار، لا يقف رشيد المومني عند حدِّ معين، لا يكتفي بأن يظل في مستوى تجربة تسمح له بأن ينفض يديه من غبار الكلمات التي ظلت تشكل عبئا عليه، بل إن تلك الحالة التي تصهر أوراقه بما يوهم أنها نهاية لآلامه الميتافزيقية لن تكون خاتمة المطاف، بل نقطة فقط في صيرورة لا تعرف التوقف: «لَـمْلمْ نارك أيضا/ ثم حاولْ أن تنأى/ كما تنأى النقطة/ عن خالقها».

تجربة على هذا المستوى الجذري من التحوُّل ستجد مسرحها الأثير في حقل التدليل Signifiance الذي يولِّد المعنى الأقل رسوخا واحتمالية والأقرب إلى ما يمكن تسميته بسمفونية العبور، من خلال قدرة كلماتها على الانفلات والانتقال في «أرض غير آمنة» لا تحتفي بغير الظن، والظلال، والمحو، والنسيان، وغيرها من القيم القريبة من صمت اللغات السحيق، «ظنٌّ يمحو ظنًّا/ لغات تلتهم اللغات».

والشاعر رشيد المومني لا يستغرق في اللغة، من أجل أن يصنع الفقاعات التي تذهل الحواس في لعبية مجانية، من قبيل الاشتغال على الأسلوب والصور البلاغية، بل إنه يتوسل إلى هذا العبور بلغة شعرية قريبة من اليومي، قريبة من الفهم لكنها تشيع في الوقت نفسه نوعا من الغرابة في اللغة، كتلك التي كان مالارمية يبحث عنها كي «يعيد تشكيل كلمة كلية، جديدة، غريبة عن اللغة» من خلال صيغ تستعمل الأصوات والكلمات المتداولة لتوليد دلالات غير مألوفة، «في صبيحة هذا الوضوح/ ما من شيء غدا غامضا/ أعدنا قراءة ما لم تقله الكتابة/ أيضا/ ما نسيت محوه أداة النفي» لغةٌ تُستَلُّ أيضا من رحم حضارة تحتضَر، حاملة لكل إيحاءات الجمود والتعفن والتكرار، لكنها تنبثق من جديد بعد تحريرها من كل شرطية أو وساطة: «كانت معنا عتباتٌ بألوان الطيف/ أحجار بكل اللغات/ إشارات يهتدي بضوئها الموتى/ نقط عارية من إيهاب حروفها/ ونحن كنا معا/ دون شرط/ أو وسيط».

في نفَس أول بعنوان «من أي شيء» يمتد على مئة وعشرين صفحة تقريبا، لا ننفك نصطدم بغير دفقات تطول أو تقصر، ولا تتعدى في الغالب الصفحة الواحدة، تقول بصيغة أو أخرى هذه اللغة الواصفة المدمنة على الصمت، «هذا هو الصمت الكبير/ ما من صوت/ يمكن/ أن/ يمرق/ عبر/ حائط/ النسيان» في سيرورة تصاعدية ترسِّخ هالة اللغة وظلالها والإقامة غير المريحة للشاعر، مع وجود الكلمات، التي في ما هي تُوهم الإنسان أنها تضمن له يقينه في نفسه والعالم المحيط، فإنها تعصف به في الفراغ، بكشفها مقدار ما تنطوي عليه اللغة من خطورة، على وعي الإنسان ونمط وجوده في آن. نمط من هذا القبيل نجده عند نيتشه، الذي يعكس وعيه الحاد بتداعيات الإيمان المفرط باللغة. يقول «إنه بعد فوات الأوان، وبالضبط من الآن، بدأ الناس يفطنون للخطأ الفادح الذي أشاعوه من خلال إيمانهم باللغة» بل إن العنوان الداخلي للكتاب يدقق السؤال أكثر، ويحدِّد مجال هذا الشيء الذي تمتد على بساطه طفرات النص ومسارحه: «من أي شيء، أنتِ أيتها الصيحة، أنتَ أيها الحرف، أنتَ أيها المعنى»؟ في انتقال وجودي من كون بالقوة، إلى لوح يكتب شيفرة هذا الصوت بحروف متناثرة، في نوع من طفولة العالم، إلى أن تستوي هذه العناصر التكوينية في معنى.

وفي الانتظار، ستظل الصدفة هي وحدها التي تحدد هذا المعنى إلى أن يرتب الإنسان الحروف الترتيب الملائم، ويقرأها كي يحظى بمعنى وجوده على هذه الأرض.

نقرأ في تصدير عبد الرحمن منيف لروايته: «عالم بلا خرائط» أن عرافة كوماي من بلاد بابل، قذفت طالب الحكمة بحفنة من أوراق الشجر، وقد كتبت حرفا على كل ورقة، وعلى السائل أن يجمع الأوراق ويرتبها على نحو ما ليجد المعنى. ونحن نستطيع أن نذهب إلى أن حظَّ الشاعر، في ديوان «من أي شيء» في مسعاه للعثور على المعنى من شيفرات الأصوات والحروف، أعقد بكثير من رمية النرد من يد عرافة كوماي، لأن تلك الرمية زيادة على المصادفات العجيبة التي يمكن أن توقعنا فيها، فهي مقذوفة في وجه رياح عاتية، «مثل قطرة طلّ/ في رحمة الإعصار/ مثل نقطة نون/ في أرض غير آمنة/ ذاك وقوفي أنا/ في مفازة هذه الورقة».

الأوراق تلتهمها النار، «وليس لي/ أن أعيد كتابة ما محته يد الحطب/ في عمق النار» و»ليس لي أن أستعيد ما ألقت به إلى باطن الجرف يداي» واللوح «الصلصالي الأزرق بين يدي قارئة الكتاب، تقول الخطى إني بك ماضية إلى حافة الصمت، إلى حافة محو لا كتابة بعده ولا قراءة، لا خطوَ أو حافة» هذه الإقامة على الحافات «الإقامة في الرحيل» كما يسميها رشيد المومني ليست سوى مؤشرات على معنى تتحكم فيه الصدفة، وليس لنا أن نسأل «من أي أرض جئت أيها المعنى؟» لأنه «من جهة ما/ سيُطلُّ العابرُ/ كي يختفيَ/ دون أن يترك فوق الأديم/ أصداء خطو/ أو عبور» بل إن المعنى نفسه يبحث لنفسه عن معنى، ولعلنا نكون كأجساد تسعى على قدمين ذلك الأمل المفتقد في العقائد والمنظومات الفكرية الكبرى (الأجنحة، الطواف) التي تدعى امتلاكها الحقيقة، «حيتان/ دلافين، ونحن/ من أجنحة لأخرى/ نطوف حول قاماتنا/ على قَدَمٍ وساقين/ عسانا نهتدي إلى ما/ لم يهتدِ/ المعنى/ إليه».

 

  • شاعر ومترجم مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي