النصّ الشعري وتعدّد التأويلات

2021-05-05

علي لفتة سعيد

لا يمكن إمساك النصّ الأدبي وإعطاء تعريفٍ ثابتٍ له ما دام هو نصّاً متخيّلاً وليس إنتاجاً توثيقياً أو كتابة تاريخٍ أو تحقيقاً عن واقعةٍ ما... ولذا فمن الضروري أيضاً القول إنه لا يمكن توصيف معالمه بصورة قطعية على أنه نصّ ينتمي إلى الكون أو نصّ ينتمي إلى الذات، ولهذا نجد التعريفات والإجابات والتحليلات والآراء والأفكار متعدّدة تلك التي طرحها النقاد والمفكرون والمحلّلون على مرّ الزمن ومنذ دهوره الأولى، سواء على يد أفلاطون أو غيره.. لأن النصّ يتغيّر بتغيّر الأحوال والبيئات والثقافات، ولهذا نجده أيضاً كتعريفٍ وفهمٍ غير ثابتٍ حتى في البيئة المكانية والجغرافية الواحدة التي تتشابه فيها مفعولات الزمن.

بناءات واتجاهات وقوالب

إن الكثير من الآراء التي نقرأها، خصوصاً ما يتعلّق بالشعر مثلاً كجنسٍ أدبيٍّ متعدّد البناءات والاتجاهات والقوالب، وبالتالي متعدّد حتى الأجناس من ان توضع له مسلّمات وقوالب خاصة أو محاولة لبرهنة إمكانية تفكيك أو توصيف هذه الأجناس أو القوالب الشعرية والتي أعني بها تدرّج القصيدة الشعرية من عموديتها إلى تفعيلياتها إلى نثريتها، رغم ما صادف هذه الأجناس، خصوصاً التفعيلة والنثر من اعتراضات جمّة، سواء على الطريقة الشعرية أو حتى على التسمية، إلّا أن الزمن أثبت أن ما يكتب هو الشعر إذا ما اعتمدنا على مقولة أن أيّ قصيدةٍ هي شعر، وإن أيّ شعرٍ هو قصيدة، وهو ما يوضّح حقيقة قصيدة النثر على انها جنسٌ شعريٌ أو توصيفٌ شعريٌّ أو حتى انزياحٌ شعريٌّ أو أيّ شيءٍ مرتبط بالشعر وقد اثبت أحقية وجودها ليس من خلال كثرة كتّابها، بل بما توصل إليها شعراؤها من ميزة الدخول إلى عمق النصّ وتداخلاته الحياتية والعبور بالمتغيّرات إلى مدياتٍ أوسع.

التأويلية المسبقة

بمعنى آخر لا شيء يمكن أن يحدّ أيّ نوعٍ أدبي، سواء أكان شعرا ام سردا.. لا يمكن تأطيره على انه ذاتي أم موضوعي أم كوني، النصّ الأدبي حاصل جمع كلّ ما له علاقة بالحياة.

 فقصيدة النثر التي فصلها البعض على انها نصٌّ كونيٌّ، وقصيدة العمود نصٌّ ذاتيٌّ، وقصيدة التفعيلة نصٌّ موضوعيٌّ، فإن هذا تأطير يحجّم من فعاليته المخيالية مثلما يحجّم من فاعليته التأويلية المسبقة ويذوّب أهميته كنص قائم بذاته ويمحي اثر التأثير به في الذائقة الجمعية.. فلا يمكن أن نعدّ قصيدة النثر على انها كونية بمعزلٍ عن الدرجة الإبداعية المخيالية والتأويلية التي يحملها النصّ، وهو أمرٌ يفترض أن يكون متواجدا مع الأجناس الأخرى من الشعر.. مثلما لا يمكن أن نعدّ قصيدة العمود على انها ذاتية المنشأ، وان قصيدة التفعيلة موضوعية الهوية.. فلا شيء يمكن أن يكون مصادق رهان تحديد وأطر قول نقدي، لأنه بالأساس قد أطّر فاعلية قوله بهذه الطريقة، ولم يعد بإمكانه إمساك الداخل والخارج كسبيل تلقٍ فاعلٍ، لأنه منذ البدء رسم سكّة قطار ولا يمكن له الانتباه الى أهمية الخروج عن خطّي المستقيم..

 في حين ان النصّ الشعري وفق أيّ جنسٍ أو توصيفٍ أو تسميةٍ يحتاج الى عملية مداهمة الزمن والكينونة والموضوعية لإنتاج نصٍّ كونيٍّ من خلال الانتباه الى ان لا خطّ مستقيم للوصول الى خطّ النهاية.

جماليات النصّ

إن محاولة البعض جعل النصّ الشعري داخل إطارٍ خاصٍّ من رؤيةٍ ضيّقةٍ تحجم فاعلية النصّ بالأصل من انه حاملٌ لكلّ ما هو متعلّق بالوجود الإنساني.. فالشعر والكتابة الأدبية عموما هما محاولةٌ لصناعة معادل موضوعي للحياة بكل متناقضاتها.. وهما مع الفنون الأخرى أيّ هذه الأجناس الأدبية المختلفة محاولة لإشاعة الجمال أمام القبح الذي يغلّف العالم، وإن أيّ محاولةٍ لتحجيم هذا الدور أو توزيع أهدافه وغاياته وأهميته وحتى أدواته وتوزيعها بين الأجناس والتوصيفات، هو أمرٌ لا يخضع للمعيار الأدبي أصلا، كونه معيار النصّ المتخيّل المبني على روح المغامرة مع الإنتاج والتفرّد بماهيته، وإن تشابهت طرق التدوين مع آخرين.. فالنتاج الأدبي كلّما جدّ جديد له أصبح مشاعا للآخرين.. وما ظهور المدارس النقدية الحديثة بتشعّباتها الكثيرة، سواء تلك المتعلّقة بالنصّ أو بالتلقّي أو النقد إلّا لأن النصّ ذاته غير قابلٍ للخضوع الى كل التصنيفات.. وبالتالي فإن وضع المقاسات والآراء حيث يشتهي طارح الرأي يبعث على ان هناك انزياحات أخرى في الطريق تؤدّي الى تهشيم تلك العلاقات القارة ما بين النصّ الأدبي وخالقه من جهة، وما بين النصّ الأدبي ومتلقّيه من جهةٍ وخاصة المتلقّي الذي سيكون متأثرا بشكلٍ كبيرٍ بهذه الطروحات التي قد تجعله يبحث عن تفاصيل النصّ إن كان ذاتيا أو موضوعيا أو كونيا، رغم انه جاء محمّلا بروحية البحث عن الجمالية في النصّ وتأويلاته وقصدياته، وما يهدف من ورائه المنتج حين يضع أمامه كلّ شيء لإنجاح النص. 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي