تمثيل الذات والآخر في قصة «الدمية»: جدلية الاستيهام والغواية

2021-04-26

ياسين الشعري*

لطالما رأت الخطابات الذكورية المرأة ملاذا لنزوات الرجل وشهواته، وقدمتها جسدا فاتنا، ركزت على وصف تضاريسه والتعبير عن الإعجاب بتخطيطاته، وقَصَرت وجودها على إشباع الغرائز وإرضاء الذات الذكورية. وقد أضحى الجسد الأنثوي في تلك الخطابات ثيمةً من الثيمات الكبرى التي تحتفي بها، يحظى بنصيب وافر من الكتابات التي تسعى إلى تصوير علاقة الرجل بالمرأة، ومغامراته الرومانسية والجنسية معها، وعلامةً دالة على تغلغل الأنثى في الذهن الذكوري، فلم يرحل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بطلا روايتي «موسم الهجرة إلى الشمال» و»الحي اللاتيني» إلا طلبا للمرأة، ورغبة في الظفر بجسدها، ولم تكن «الخبز الحافي» إلا مرآة لهذا التغلغل والافتتان بالجسد الأنثوي.
ضمن هذا الإطار تتنزل قصة «الدمية» للقاصة المغربية لطيفة لبصير، التي صدرت ضمن مجموعتها القصصية «أخاف من..» عن دار الناية للدراسات والنشر والتوزيع، في بيروت، في طبعتها الأولى سنة 2014. وترتهن المؤلفة في بناء هذه القصة إلى عملية تمثيلية تتوخى إنتاج خطاب سردي فيه قدر من الغيرية. فما هي الصورة التي تقدمها قصة «الدمية» عن الذات والآخر؟ وما العناصر السردية التي تتدخل في بناء هذه الصورة؟

الأنثى في «الدمية»: موضوعا استيهاميا

قصة «الدمية» صورة عن فتنة الجسد وافتتان الذات الذكورية بالأنثى، كشفت من خلالها لطيفة لبصير عن المسكوت عنه في علاقة الرجل بالمرأة ـ جنسه المغاير والمختلف عنها ـ التي يمكن الحكم عليها بأنها علاقة مختلة، لأن كلا منهما يعيش في عالم مختلف عن الآخر ومستقل عنه، هناك بون بين ذات تنزع إلى الألفة والمؤانسة بالآخر، والانخراط في الحياة اليومية، وآخر ينفر من العلاقات الإنسانية ولا يُقبِل عليها، مفضلا العيش مع الدمى، عوض الانخراط في الحياة اليومية، بحكم ما ينتشر فيها من قيم مختلة ومتضاربة، وبحكم ذلك النزوع الذكوري الذي كان يرى فيها مصدرا للذة، لكن رغم هذا التباين تبقى الذات الذكورية متشبثة بآخرها الأنثوي، وراغبة في نيل جسدها والاستبداد به، ولم تمت هذه الرغبة حتى بعد أن فارقت نجمة الحياة: «وأمسكت بيدها من جديد وقبلتها، مررت يدي على الساقين المنيعتين بالعنف الذي أختزنه في صدري، ولثمتهما لثمة خفيفة بألم مر».
تعكس هذه الصورة انحدار القيم الإنسانية وامتثال الرجل لسلطة الشهوة والكبت، وتظهر الأحاسيس المقموعة والمختزنة. إنها تنم عن مفارقة صارخة، وعن فعل شاذ للطبيب، فبينما استُدْعي لفحص السيدة ويعرف هل فارقت الحياة أم لا، استغل الوضع لإشباع نهمه الجنسي، وتفريغ مكبوتاته، فالموقف يستدعي أن يتخلى الطبيب عن هواجسه التي تستبد به وهو بصدد أمر وجودي مأساوي، وأن يفصل بين المهمة التي انتُدِب إليها، وما يفور في داخله من شهوة. لقد تحول من يمنح الحياة بمعالجته للمرضى إلى قاتل حرم السيدة من حياتها، وإلى مغتصب خاضع لنزواته وعبد للشهوة، أما المغتصَب فهو قد يكون في المرة الأولى (وهذا التأويل مبني على شهادة الفلاح) مقاوما لفعل الاغتصاب، حتى انتهى به المطاف إلى أن يُقتل على يد المغتصِب، أما في المرة الثانية فهو طرف مغيب في العملية الجنسية، لا يمانع أو يبدي أي مقاومة.

السارد وجسد الأنثى: تعلق استيهامي ورغبة قاتلة

لتَستبِين لطيفة لبصير مكنونات الذات الذكورية، وتكشف عن الخبيء في رؤيتها للمرأة ولعوالمها؛ أسندت سردَ الأحداث لسارد رجل، يتكئ على ضمير المتكلم «أنا» لنقل الأحداث وتحريكها، ومن سمات هذا السارد أنه كان مفتوناً بجسد «نجمة» متعلقا بها تعلقا استيهاميا نزويا، ينتهي بانتهاء العملية الجنسية وإشباع الرغبة. ترتبط قصة «الدمية» بمصير ذات إنسانية «نجمة» تلك الذات التي كان مصيرها أن تقتل خنقا على يد الطبيب، الذات الساردة التي حاولت أن تلصق تهمة القتل في نهاية القصة بالدمية: «السيدة قتلتها الدمية… لقد تحولت إلى جنية وقتلتها…» وإن كان في بدايتها قد رفض هذه الخرافة، وشكك فيها من خلال سؤال استنكاري، طرحه على شيخ البلد، «أية دمية؟ هل ما زلتم تؤمنون بهذه الخرافات؟». ويكشف هذا عن تناقض السارد، فبينما استنكر في البداية هذه الخرافة، نجده في النهاية يثبتها، محاولا بذلك أن يتملص من التهمة التي وجهها له الفلاح، الذي رآه ليلا يغدو من بيت نجمة كالمجنون، وقد سقطت منه ولاعته.
لقد كشفت قصة «الدمية» عن حالة عاطفية للطبيب، تعبر عن اشتهاء جسدي لنجمة، لكن إمعانها في البعاد، وتمنعها عن الاستجابة لهوَسه، حال دون أن يحقق موضوع رغبته، ولعل ذلك أن يكون سببا نمّى فيه مشاعر الاستيهام، وأحدثَ ذلك التحولَ الذي وصل إلى حدود تدمير مضمون الرغبة الجنسية، بلجوء السارد إلى انتهاك حرمتها وقتلها، فقد ساير رغبات جسده، متمردا على القيم الإنسانية وكل ما يقيد فعل الجسد البشري. كما تكشف القصة أيضا عالم المرأة الكارهة للعالم الذكوري والمعتزلة له،
نظرا لكونه عالما استيهاميا طاغيا، جعل نجمة تموت في القصة مرتين، مرة لما وجدت زوجها يخونها مع امرأة أخرى، فماتت فيها مشاعر الأُنْس إلى الرجل ومعاشرته، ومرة لما أبت أن تسلم جسدها للطبيب فقتلها.

الولاعة والدمية: الرغبة والاكتفاء الجنسي

تحضر في قصة «الدمية» عناصر سردية صغرى، يمكن اعتبارها رموزا، لا تنفصل عن الدلالة العامة للقصة. منها الدمية التي لا تكتسي هنا دلالتها المعروفة، المتمثلة في كونها لعبة مسلية للأطفال فقط، وإنما تتميز بالتحول الدلالي، فتتخذ رمزية مصاحبة نجمة ومؤانستها، وتصير بديلا عن الرجل الذي خانها، بل تصبح بمثابة شخص يذكرها بعدم معاشرة الأزواج. لقد وضعتها على سريرها، كلما نظرت إليها ذكرتها بوعدها، الذي خطته في مذكرتها. إنها تشاركها فراشا واحدا، هي أنيسها في الليل، ولشدة تعلق نجمة بالدمى أطلقت عليها أسماء آدمية، كأنها في ذلك تحاول أن تُشَخِّصَ الجامدَ وتُؤَنْسِنَه، وترتفع به إلى المقام البشري، بل إن الأمر أدهى من ذلك، تصير هذه الأشياء المتخشبة المصنوعة بديلا عن الرجل الخائن. إضافة إلى ذلك، فإن استحضار الدمية في هذه القصة، في ارتباطها بنجمة، فيه دلالة على تخشب مشاعرها وأفول رغبتها في معاشرة الرجل.
كما تعد الولاعة رمزا معبرا في القصة عن الحالة الشهوانية التي تملكت الطبيب القاتل. لقد اشتعلت مشاعره، فذهب ليلبيها في بيت نجمة، لكنها رفضته، خنقها فغادر البيت، وأثناء جريه سقطت الولاعة منه. تبدأ القصة ببحثه عنها، وهو في حالة من التوتر، وتنتهي بحديث الفلاح الذي وجد الولاعة فأخبر الدرك بذلك. فقد كانت الولاعة وحدها كافية لإثبات تهمة قتل الطبيب لنجمة.
إن الولاعة في هذه القصة بمثابة «استعارة جنسية كبرى» (سعيد بنكراد) تعبر عن رغبة في الظفر بجسد نجمة، موضوع الرغبة، فكما أن الولاعة عندما تشعلها تحاول أن تفتك بما حولها كذلك الشهوة. وهو ما يثبت أن الولاعة هنا لها علاقة بالاندفاع والرغبة، وما سقوطها من الطبيب إلا دليل على أن الرغبة لم تتحقق، بل ارتدت إلى نفسها، ليكون المصير كبثها، رغم محاولة الطبيب التمكن من موضوع رغبته مرتين، المرة الأولى التي انتهت بخنقه لنجمة، والمرة الثانية لما أتى رفقة شيخ البلد ليتفحصها هل ماتت أم لا…
وهكذا تكون الولاعة والدمية قد مثلتا العلاقة المختلة بين الأنا والآخر، فالدمية تدل على الاكتفاء الجنسي والتخشب، أما الولاعة فتدل على الحاجة إلى الآخر والرغبة الجنسية، تكتفي الدمية بذاتها دون حاجة إلى آخر، بينما الولاعة تظل في أمس الحاجة إلى آخرها حتى يكتمل وجودها، ولا تنقطع رغبتها فيه.
بهذا تكون قصة «الدمية» قد صورت العالم الرجولي، من خلال التركيز على الجسد، بأنه عالم مفتقد للقيم الأخلاقية والإنسانية، عالم التناقض والخيانة والاندفاع وراء شهوات الجسد ونزواته، يتمرد على ضوابط المؤسسة ويخرق قوانينها غير آبه بما يقيد الفعل البشري، وبالنظم التي تحدد العلاقات بين الجنسين، تلبية لحاجياته البهيمية، التي تعمي بصره فتقوده إلى اقتراف الإثم وتجاوز الحدود والمواضعات المجتمعية.
استطاعت لطيفة لبصير ـ بجعلها السرد على لسان سارد رجل ـ أن تكشف عن فتنة الجسد الأنثوي وعما يستنبته في الرجل من افتتان جنوني يجعله يسعى إلى امتلاكه بالقوة، على نحو ما استطاعت، عبر الإمكانات الفنية والجمالية التي انكتبت بها هذه القصة، أن تفضح أوهام الذات الذكورية، وتكشف انحرافاتها الشعورية، وبذلك تكون قد أبرزت خصوصيات الجسد الأنثوي من خلال الحفر في علاقته بالآخر النقيض.

*كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي