لا… هذه ليست بيروت!
2020-07-18
غادة السمان
غادة السمان

بدلاً من تناول العقاقير المنومة التي تساعد على هزيمة الأرق، أحاول مشاهدة أفلام تبعث على التثاؤب، إذ تنتهي دائماً بنهاية سعيدة، ومنها سلسلة أفلام «الملاك الحارس» تمثيل القزمة الفرنسية الرائعة ميمي ماتي. والبارحة، كنت أراقب بحلقة من المسلسل خراب دكان حلاق احترق بأكمله، و«الملاك الحارس» ميمي ماتي تساعده و«توعد الحلاق» بإعادة بنائه، وتأتي زبونة سابقة، وحين ترى الخراب كله وآثار الحريق تقول كلمتين جرحتاني، إذ كان استنكارها لهذا الهول كله هو قولها: «إنها بيروت»! أي أن كلمة «بيروت» صارت تعني الخراب والحرائق! وأضحت مثلاً!

أمام الخراب والحريق: «إنها بيروت»!

يحزنني اقتران اسم بيروت بالموت والحرائق كما كانت أيام الحرب الأهلية، ذلك ليس كاذباً، وحدث، ولكن ما كان مضى -على ما أرجو ولا أحب- إلصاق اسم أي خراب وحريق باسم بيروت التي أحب. وأتمنى ألا يتكرر ما كان، والأوضاع في بيروت لا تدعو إلى التفاؤل!

حرائق في العقل!

ولكن ما يدور اليوم أحياناً في بيروت هو النذير بالخراب. والدمار العقلي أكثر خطراً من الدمار في الأملاك المشيدة. فقد أتصلت هاتفياً بصديقة بيروتية لأشكو لها إغلاق المطارات وعدم القدرة على السفر إلى بيروت.. كانت غائبة عن البيت، ورد عليَّ زوجها خريج الجامعة الأمريكية المتعلم. قال لي بحزن متدين يكره السخف تحت شعار الدين: هل تصدقين أن البعض في بيروت يتوهم أن «فيروس كورونا» لا يصيب المسلمين؟ لم يخطر لي يوماً أن بعض (البيارته) قد يفكر (وبالأحرى لا يفكر) على هذا النمط.. وكم ذلك محزن، في بيروت عاصمة الفكر والحرية العربية، ولكن ما يدور اليوم في بعض الأدمغة يدعو حقاً إلى القلق!

حجارة لضرب الإعلاميات والإعلاميين في بيروت!

حين قرأت ما كتبه سعد الياس من بيروت حول تعرض الإعلاميين والمصورين لمضايقات خلال تغطيتهم وقائع التظاهرات في بيروت، غمرني حزن حقيقي. فقد أصيبت مراسلة قناة الجديد «ليال سعد» بحجر في رأسها من قبل فتيان وصلوا على دراجات نارية إلى ساحة الشهداء واشتبكوا مع قوى مكافحة الشغب «كما كتب سعد الياس»، هذا أمر خطر على الحريات. والدماء التي سالت على وجه ليال سعد هي النذير بالدماء التي قد تسيل على وجه بيروت كلها، بل ولبنان إذا استمر الحال على هذا المنوال.

رنيم بو خزام، ونخلة عضيمي، ونوال بري، وجويس عقيقي، وزينة باسيلا شمعون، كلهن تعرضن للاعتداءات وهن يقمن بعملهن الإعلامي، كما حدث ذلك للاعتداءات التي يتعرض لها الصحافيون والمصورون خلال تغطية الأحداث في مختلف الأراضي اللبنانية. وشكراً لسعد الياس الذي ينقل لنا ما يدور.

 ألا يخجلون مما يفعلون؟

أتساءل: لماذا يمنع البعض ـ وقد تكون القضايا التي يتظاهرون لأجلها محقة ـ لماذا يحاولون منع الإعلام من نقل الصورة الحقيقية للناس؟ هل هو عدم الاقتناع بعدالة قضيتهم، بل ورغبتهم في تدمير المخازن ونهبها؟ لماذا، بدلاً من شكر الإعلاميات والإعلاميين الذين ينقلون أصواتهم إلى الناس ـ إذا كانوا صادقين في عدالة قضيتهم ـ لماذا بدلاً من الشكر والامتنان يضربونهم بالحجارة لمنعهم من تعريف الناس بما يدور؟ نعيش في عصر لم يعد من الممكن لأحد أن يقوم بأي حراك سراً!

ومن الأفضل ألا يفعله بدلاً من الاعتداء على من ينقله للناس أعلامياً!

امرأة من العالم الثالث!

يبدو أنني على الرغم من طول إقامتي في باريس (أكثر من ثلاثة عقود ونصف) ما زلت كيوم وصلت إلى هذه المدينة الجميلة، امرأة سورية لبنانية من العالم الثالث، ولن يكتب أحد على قبري حين أموت: أديبة فرنسية من أصل عربي. فأنا عربية حتى الموت.

وما زلت حتى اليوم أشعر بالنفور مما يفترض أنها مشاهد كوميدية في السينما الغربية، حيث يتضارب الممثلون بالطعام يدوسونه، وأنا أعرف جوع الفقراء واللاجئين في عالمنا الثالث، الذين يشتهون قطعة حلوى من تلك التي يفترض أنها تضحكنا حيث يتضاربون بها. وأشعر بالنفور من البطر.

مياوو.. مياوو.. وجه آخر للبطر..

أحب القطط، كانت لدينا في البيت دائماً قطة في دمشق تعمل (كحارس) ضد الحشرات كالرتيلاء والفئران وسواها.. فالقطة من مخلوقات الله الجميلة والمزاجية، وكنا ندللها ونداعبها، وحين كنت بنتاً صغيرة كانت عمتي المقيمة في حي الحلبوني ـ دمشق تبعث بي إلى اللحام لأحضر منه (الشخت) مجاناً؛ أي قطع اللحم غير الصالحة للطبخ والتي تعشقها القطط، والآن ثمة في السوبر ماركت الباريسي رفوف خاصة بطعام القطط والكلاب تذكرني بالجياع في بعض خيام أوطاني العربية!

بين الهرر وقهر البشر!

قبل عام ونيف، حين مات أحد ملوك الموضة في أوروبا «كارل لاغرفيلد»، أوصى لقطته المدللة «شوبيت» بمقدار كبير من ثروته!

وكل إنسان حر في طريقة إنفاق ماله حياً أو بعد موته. وكنت أتمنى لو ذهب هذا المال إلى الفقراء إلى جانب قطته!

والبارحة، وأنا أشتري الصحف فوجئت بمجلة خاصة بالحيوانات المنزلية الأليفة.. أما العناوين في الغلاف فهي حول أساليب مكافحة السمنة لدى القطط والكلاب، ومكافحة الاكتئاب لديها (!) وشركات التأمين على حياتها، وحوانيت التدليك للقطط والكلاب، والفنادق الخاصة بها إذا ذهبت في إجازة ولم تتمكن من اصطحابها!

الحياة العاطفية للحيوانات الأليفة!

الدين الإسلامي أمرنا بالرفق بالحيوان، ونحن نعاملها جيداً دونما مبالغة، كاصطحابها إلى الطبيب النفساني الخاص بها مثلاً!.. (ونحن في حاجة إليه أكثر منها) وقد يدهشنا عدد الكتب الفرنسية حولها، وهو ما عرفته من خلال كراس أدبي لشراء الكتب بالمراسلة يصلني دائماً. وأذكر على سبيل المثال الكتب التالية: «كل ما تحاول القطط قوله لنا» تأليف لوتيسيا دورلوران. وكتاب: «الحياة العاطفية للحيوانات الأليفة»، تأليف جيفري ماسون. وكتاب على غلافه صورة الأديبة الفرنسية كوليت محتضنة قطتها، تأليف جيرار بونال.

وأعترف بأنني لم أشتر بالمراسلة أي كتاب منها، فأنا امرأة من العالم الثالث، تسكنني هموم أخرى، منها محاولة سرقة المزيد من أراضي الفلسطينيين على يد الاحتلال الإسرائيلي..

وقائمة همومي تطول.. ولقلبي مشاغل أخرى تتعلق بجراح وطني العربي…

فأنا بحق امرأة من العالم الثالث… و«أنوء» حزناً لما يدور لبنانياً وعربياً!

 



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي