سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
2021-11-06
غادة السمان
غادة السمان

هذا عنوان لكتاب بالفرنسية لفتني في إحدى المكتبات الباريسية فاشتريته ولم أندم. تساءلت وأنا أحمله معي إلى البيت: كيف يمكن لأحد التنزه فوق قبور الناس بدلاً من قراءة الفاتحة لأرواحهم؟ واكتشفت أن الكتاب يروي سيرة بعض المبدعين الفرنسيين ابتداء من ذكر مكان دفنهم مع الصور، وبالذات ما اختاروا كتابته على قبورهم. كقول أحدهم: «قلت لكم إنني لا أشعر بحالة جيدة» وانتهى به الأمر في القبر!

المقابر وابنة صديقتي اللندنية

جاءت تزور باريس، وعدت والدتها بالاهتمام بابنتها التي كانت زميلتي في الجامعة أيام الدراسة في لندن. وبعدما دعوتها إلى الغداء بمطعم فرنسي، ودعتها وقلت لها إن في وسعها الاستمتاع بباريس كسائحة، أما أنا فسأذهب لزيارة قبر زوجي في مقبرة (مونبارناس) في قلب باريس. وهنا أصرت ابنة صديقتي على مرافقتي، وقالت إن الكثير من المبدعين مدفونون هناك وتريد زيارة قبورهم. لم يخطر ذلك ببالي من قبل، فأنا أذهب دائماً لزيارة قبر زوجي لقراءة «الفاتحة» وأترحم عليه وأغادر المقبرة.

سيرة تبدأ من القبر إلى الولادة!

هذا الكتاب من تأليف جان سيباستيان بتيدي وانتونيثيتو رينو، الصادر عن منشورات لاروس فرنسا، نجح في التقريب بين حياة المبدعين وموتهم، أي يبدأ بصورة لقبورهم ومكانها، بالذات ما اختاروا كتابته على شاهدة قبورهم. واكتشفت أن رغبة ابنة صديقتي لزيارة مقبرة «مونبارناس» ليست من قبيل المجاملة لي، بل إنها تريد منها جولة (سياحية) بمعنى ما!

الكتاب يذكر أسماء المبدعين وأماكن دفنهم، وأنا مثلاً لم أكن أدري أن زوجي مدفون إلى جانب سيمون دو بوفوار واندريه شديد وسارتر والمغني والملحن الشهير سيمون بيرجير وداليدا والكاتبة مرغريت دوراس والمغني غينسبرغ والممثل ميشيل غالايرو والمبدع يونيسكو والسينمائي فرنسوا تروفو، والكثير من المشاهير الذين لا يحصون، بما في ذلك الرئيس شيراك وشاه إيران وجين سيبرغ وستندال وسواهم كثيرـ وابنة صديقتي لا تقصد مجاملتي في زيارة مقبرة مونبارناس حيث دفنت زوجي الحبيب الراحل، بل تريد متابعة رحلتها السياحية وقراءة ما يحبون تسطيره على قبورهم بعد موتهم ودفنهم!

مقبرة «بير لاشيز» الباريسية الشهيرة

ذهبت مرة وزوجي إلى مقبرة في قلب باريس أيضاً اسمها «بير لاشيز».. وزرت قبر شوبان الموسيقار المبدع، ودهشت حين سألت أحد حراس المقبرة عن مكان دفن جورج ساند المحاطة بقبور عشاقها (كما قيل لي) حتى بعد موتها، قال لي أن أشتري الخارطة السياحية للمقبرة ومكان دفن مشاهيرها، ولم أكن أدري أن بعض مقابر باريس أماكن لها خرائط سياحية أيضاً! وهكذا توقفت وزوجي أمام العديد من قبور المبدعين. والشاعر ابولتير وماريا كالاس واغليسياس واوسكار وايلد وسواهم لا يحصى من المشاهير، وجلست وزوجي على أحد المقاعد الخشبية كما في حديقة عامة، وقررنا القيام بزيارة أخرى إلى مقبرة «بير لاشيز» وقراءة ما اختار المشاهير كتابته فوق قبورهم، لكن تناهت إلى الأنف رائحة كئيبة هي رائحة محرقة الجثث، كأن الرائحة تذكرنا بأننا في مقبرة لا في حديقة عامة للنزهة. ولم نعد بعدها إلى المقبرة.

الأمر مختلف في وطننا العربي

في المقابر العربية نكتفي بكتابة تاريخ الراحل (الولادة ـ الوفاة) مع بعض الدعوات الدينية.. وقد كتبت، مرة، الصحافية زهرة مرعي عن مقبرة «الباشورة» البيروتية في «القدس العربي» 16 تموز (يوليو) 2017 من زاوية أخرى، هي «رحلة في سيرة الخطوط على مقبرة الباشورة» مع الصور؛ أي من زاوية أخرى تماماً، ونقرأ مثلاً على أحد القبور في صورة نشرتها «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم» مع عبارة «لا اله إلا الله محمد رسول الله». فقبورنا لا مجال فيها لدعاية الراحل، بل التركيز على الخط الذي كتبت عليه الأدعية فوق القبر.. ولكل عاداته وتقاليده.

الخوف من المقابر!

مرة قررت كتابة حوار مع حفار القبور في إحدى مقابر بيروت، لنشره في مجلة «الحوادث» حيث كنت أعمل فيها، وكانت ترافقني إحدى صديقاتي، وحين وصلنا إلى المقبرة رفضت مرافقتي إلى داخل المقبرة في موقف عنيد مفاجئ، وتركتها في السيارة، ودخلت وقمت بحوار سريع مع حفار القبور/حارس المقبرة، ولاحظت وجود أطفال يقفزون بين القبور، وقال لي إنهم أولاده، وإنه يقيم وأسرته في المقبرة دون دفع الإيجار لأحد!!.. والغريب أن المقبرة التي رفضت صديقتي مشاركتي في الدخول إليها كانت مكان دفنها!.. أهي الحاسة السادسة؟

ليس في العربية ما يشبهها

الكتاب الفرنسي «سأذهب للنزهة فوق قبوركم» ليس في العربية ما يشبهه، لكنه كتاب جذاب ومفيد.

وصحيح أنه يتحدث عن مقابر باريس وسواها في فرنسا، وأماكن دفن المشاهير، لكنه يتحدث عن حياتهم وإبداعهم وتاريخ ولادتهم.. أي يشبه المعجم الثري بالمعلومات عن المبدعين الفرنسيين الذين دفنوا في فرنسا، وبصور بعض قبورهم والتماثيل التي قد تعلو بعضها، كما قبر الممثل الوسيم جان ماريه.

وزرت قبر المبدع الكبير فان غوخ، في رحلة سياحية إلى (اوفرسورواز) القريبة من باريس، وقد دفن في قبر قرب شقيقه الذي كان يمده بالمال والاحترام لإبداعه.. فان غوغ الذي قطع أذنه ويقال إنه مات منتحراً في حقل كان قد رسمه. وزرت الحقل.

ومن طرفي، أشعر بالحزن على ذلك المبدع الكبير الذي باع ذات ليلة لوحة رسمها مقابل صحن من الحساء، وبيعت اللوحة إياها بعد ذلك بعقود بملايين الدولارات. باختصار، كتاب «سأذهب للنزهة فوق قبوركم» هو في حقيقته كتاب للتجول في الإبداع الغربي. وتذكير لنا بأن زيارة قبور الذين نحبهم أو نحب إبداعهم وقراءة الفاتحة أمر محبب.

وفي زياراتي كلها إلى بيروت، أذهب لزيارة قبر غسان كنفاني في مقبرة الشهداء البيروتية.. وتصادف أنه دفن قرب سور المقبرة، وتساءلت: تراه يقفز من قبره ليلاً عبر السور ويذهب لبث الروح في الثورة الفلسطينية ثم يعود مع الفجر؟

كتاب «سأذهب للنزهة فوق قبوركم» يثير الكثير من الأفكار والمشاعر ويستحق القراءة، وهو صادر عن دار «لاروس» الفرنسية. أتساءل أحياناً: أين سأدفن؟ مع زوجي في مقبرة مونبارناس باريس أم في مقبرة «الباب الصغير» في دمشق أم مع أمي في اللاذقية؟ المهم أنني سأموت، وأينما دفنت ستبقى كتبي على ما آمل (أو بعضها) حية في قلوب قرائي.. وسأعيش عبرها حياة ثانية!

 

  • كاتبة وأديبة سورية

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!
  • يا دمشق: لن أنسى يوماً ما كان!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي