هل ثمة حدس؟.. وهل تتجسس على جيرانك؟
2020-06-06
غادة السمان
غادة السمان

أنعم الله علينا بالعديد من الحواس، كالسمع والبصر والشم وسواها، ولكن هل أنعم علينا أيضاً بحواس نجهل طريقة استعمالها كالحاسة السادسة والحدس؟

ما سأرويه حدث قبل الحرب اللبنانية ولم أنسه، وما زلت أتساءل ما الذي جعلني ذلك المساء من ليل السبت أذهب من بيروت إلى بحمدون للقاء الحبيب أبي؟

كنت قد قضيت قبلها شهراً بين تونس وباريس، وحين عدت إلى بيروت اتصلت بعد ساعات بأبي هاتفياً، وكان يصطاف في بحمدون، وأتفقنا على اللقاء يوم الأحد للغداء على شاطئ البحر في بيروت. أما مساء السبت، فكان من المفترض أن أقضيه مع الصديقة الصحافية ن.ش والصحافي ف.س حيث نذهب إلى أحد مقاهي الروشة التي كانت يومئذ مزدهرة وتعج بالأدباء والمفكرين والموائد المتلاصقة، للحوار بحرية، كما في مقهى «الدولشي فيتا» أو «الديبلومات» و»الماي فير» الذي جاء ذكره في رسائل غسان كنفاني لي. وهكذا كان من المفترض أن أُمضي مساءً بيروتياً هادئاً، ريثما ألتقي أبي صباح اليوم التالي.

مصرة على الذهاب للقاء أبي!

ما كدنا نصعد إلى سيارة، الأستاذ ف.س ومعي الصديقة الصحافية ن.ش، للذهاب إلى أحد مقاهي الروشة حتى قلت لها: أريد الذهاب إلى بحمدون، حيث يصطاف أبي، فأنا لم أره طوال الشهر الذي قضيته، كما تعرفان، بين تونس وباريس، وعدت فقط أول البارحة!

قالت صديقتي: ولكنه قادم غداً من بحمدون لقضاء يوم الأحد معك.

قلت لهما بإصرار: أريد أن أراه الليلة ولو لدقائق تبقيان خلالها بانتظاري في السيارة!

كانت رغبتي جامحة، حتى أنني أضفت: بوسعي الذهاب بمفردي إلى بحمدون في سيارتي! وامتثلا لرغبتي على الرغم من أن الدرب بين بيروت (والجبل) كانت مزدحمة جداً بالسيارات بين الذاهبين للعشاء في أحد مطاعم عاليه وسوق الغرب وصوفر وسواها، أو لقضاء الاجازة الأسبوعية في بيوتهم الصيفية.

وصلنا أخيراً إلى بحمدون، وصعدت للقاء أبي لدقائق بينما انتظرتني صديقتي ن.ش والأستاذ ف.س في السيارة.

ليلتها ارتبكت: إنه اللامعقول!

فرح أبي للقائي، ولكنه دهش لحضوري؛ لأننا سنقضي اليوم التالي معاً. قلت له إنني أريد الاطمئنان على وصول رسالتي له من تونس والأخرى من باريس.

وسألني ضاحكاً: أما كان بوسعنا أن نتحدث عن ذلك صباح الغد حين نلتقي؟ قلت له بارتباك: مشتاقة لك. لم أستطع الانتظار حتى صباح الغد! ضحك أبي وقال، وهو يقبلني على جبيني مودعاً: هذه أنت طوال عمرك. تجهلين «فن الانتظار»!

ولكنني صباح اليوم التالي اكتشفت أنني لم أكن أجهل فن الانتظار، بل لعل حدسي قال لي بلا صوت أن الغد الذي نحلم به قد لا يأتي!

هل الحدس حقيقة لا نتنبه إليها؟

عدنا إلى بيروت وفي عيني صديقتي ن.ش نظرات لوم لي لأنني أفسدت سهرتهما. واعتذرت لأنني حقاً لم أفهم سبب سلوكي اللامنطقي.

وفي اليوم التالي، في السابعة صباحاً، رن جرس الهاتف ونهضت من النوم وجاءني صوت ينعى صديقي الوحيد والدي. وعلمت أنه كعادته، أستيقظ باكراً وصلى الصبح، وبينما كان (يحلق ذقنه) في الحمام سقط فجأة على الأرض بنوبة قلبية مفاجئة… ورحل إلى خالقه، وكان قبلها بأفضل صحة وعافية كما شاهدته. وأتساءل حتى اليوم: ما الذي جعلني أذهب إلى بحمدون للقائه ليلة رحيله عن كوكبنا، بل وأصر على ذلك وأفسد سهرة صديقين ليلة السبت؟

هل هنالك حاسة الحدس؟ هل زودنا الله تعالى بحواس ما زلنا نجهل طريقة استعمالها لكنها تحدث لنا؟ وهل نستطيع تنميتها ونحسن استعمالنا لها؟ وهل ذهبت لوداع أبي قبل ساعات من موعدنا معاً دون أن أدري أننا لن نلتقي أبداً بعد ذلك؟ أنا واثقة من أن لدى الكثير من القراء حكايات عاشوها لا يمكن تفسيرها إلا بالحدس وبالحاسة السادسة… بل وأظن أنه من الممكن تأليف كتاب عن شهادات الناس الذين عاشوا ما يشبه ما عشته ليلة رحيل أبي الحبيب عن كوكبنا. ولكنني ما زلت أتساءل: ما هو الصوت السري الذي دفع بي الإصرار على الذهاب إلى بحمدون كما لو ذهبت لأودعه؟ لعل الحدس ليس مصادفة بل حاسة نجهلها.

دعوة للتجسس على الجيران؟

اشتريت صُحُفي وسواها من مخزن باريسي كبير، وحين غادرته وقرأت الفاتورة شعرت بالدهشة، إذ جاء في آخرها كملحق عبارة أترجمها حرفياً: هل كنتِ ضحية أو شاهدة/على العنف الزوجي (لدى الجيران)؟ اتصلي/اتصل بالرقم 17 أو 114 بواسطة SMS أو على الإنترنت على: أوقفوا العنف المنزلي وسينصتون لك.

ومن المعروف أن فترات الحجر المنزلي بسبب وباء كورونا سببت احتقاناً نفسياً لدى البعض في البيت، كما يحدث للسجناء جميعاً، هل بوسعك لعب دور الجاسوس على الجيران؟ ستقول لا..

ولكن ماذا إذا اكتشفت صباح اليوم التالي أن أحد جيرانك قتل شريكة حياته؟ هل ستندم على صمتك؟ لأن ذلك لم يحدث لي، لا أعرف الإجابة وأسأل القارئ.

ثمة حكايات مبهجة أيضاً!

أختم بما قد يسر القلب… فقد شاهدت البارحة على شاشة التلفزيون الفرنسي سيدة عمرها 100 سنة استطاعت النجاة من فيروس كورونا، وها هي تغادر المستشفى الباريسي.

الجميل أن الممرضات والأطباء اصطفوا إلى جانب الممر وهم يصفقون لها، وعلى ابتسامتها علامة السعادة وهي متكئة على عكازها وذراع حفيدها، وفي عينيها الهرمتين ضوء إرادة الحياة. كان ذلك مشهداً مبهجاً في زمن نفتقد فيه الأخبار الطيبة بعيداً عن عدد الوفيات الأسبوعية بكوفيد 19.

ووعيت كم نحن في جوع إلى لحظة تفاؤل وفرح..

وكم صرنا نكره المسلسلات التلفزيونية التي تدور في المستشفيات، وما أكثرها، ويتمنى الناس على مختاري البرامج المتلفزة الرأفة بالمتفرج والكف عن برمجة المسلسلات التي تدور في المستشفيات!



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي