

مستقبل العراق في الدق من خلال ارتباطه بالتحولات المتسارعة على الطريق إلى مستقبل الشرق الأوسط الجديد، ولا شيء في الانتخابات النيابية سوى تكرار الدوران في المأزق المستمر منذ الغزو الأميركي عام 2003 وما تبعه من تنافس أميركي - إيراني على النفوذ في بلاد الرافدين. فما حدث هو النزول من الهوية الوطنية إلى الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية، وما يختصر المشهد والمأزق موقفان متضادان: واحد عبر عنه الناطق باسم "حزب الله" العراقي بالقول "للشيعة الوصاية الكاملة على العراق"، وآخر كررته واشنطن، وهو "الوقوف إلى جانب العراق لتأمين مستقبل خالٍ من الميليشيات". فلا يمكن بناء دولة في بلد يأخذ الشيعة "الوصاية الكاملة" عليه، ويكون السنة والكرد والمسيحيون وعدد من المذاهب التاريخية تحت الوصاية الشيعية. ولا مجال لبناء دولة في بلد لديه أكثر من مليون عسكري، لكنه مجبر على الحاجة إلى "الحشد الشعبي" الذي يضم 70 تنظيماً مسلحاً أكثرها على ارتباط بـ"الحرس الثوري الإيراني".
ذلك أن العراق الذي هو الثاني بعد السعودية في المخزون الاحتياط النفطي مسروق وليس مفلساً. سطا على أمواله النافذون، وصار في حاجة إلى كهرباء وماء وبنية تحتية كأنه بلا موارد. واستشرى الفساد إلى حد أن وزراء سرق بعضهم مليار دولار وارتشى بمليار آخر، ورؤساء حكومات خرج بعضهم من السلطة التي دخلها فقيراً وفي رصيده عشرات المليارات. ولا محاسبة، إما لنقص القدرة، وإما لفائض الرغبة في الإفادة من الفساد وإرضاء الوصي الخارجي. "ثورة تشرين" في المحافظات الجنوبية بصورة عامة، والتي رفع شبابها في كربلاء والناصرية وميسان وواسط والبصرة وسواها شعار "التخلص من الاحتلالين الأميركي – والإيراني "تعرضت لأكبر عملية قمع وعنف وقتل. والحكومات التي تعاقب على رئاستها قادة الأحزاب الشيعية الدينية باستثناء شخصين من خارج الوصاية الإيرانية هما إياد علاوي ومصطفى الكاظمي، حاولت إما ترجيح كفة النفوذ الإيراني، وإما ترتيب الحد الأدنى من التوازن في العلاقات مع واشنطن وطهران والانفتاح على الأشقاء العرب، لكن المأزق العراقي استمر.
حتى تسلط ميليشيات مسلحة على الأنبار وهي من خارجها، فإنه مستمر إلى اليوم بعد سقوط "دولة الخلافة" الداعشية التي أعلنها أبو بكر البغدادي من جامع الموصل واعتبر الرقة في سوريا عاصمة لها. وعندما فاز تيار مقتدى الصدر بالعدد الأكبر من مقاعد الأحزاب، وحاول الانتقال في تركيب السلطة من المحاصصة الحزبية إلى برنامج وطني، فإنه وجد نفسه مضطراً إلى لانسحاب من البرلمان، حيث ملأ الخاسرون مقاعد المنسحبين، وهو قاطع الانتخابات الجديدة أيضاً، لكن إيران لا تزال تمسك باللعبة على أساس أن "الوصاية الشيعية" هي وصاية إيرانية، وأبسط ما قاله أستاذ الأمن الوطني في جامعة "النهرين" حسين علاوي هو "أن العراق يمثل الحلقة الأولى في سياسة الأمن القومي الإيراني". أما تركيا، فإن لديها في العراق 60 مركزاً عسكرياً إلى جانب قاعدة "زيلكات" في نينوى. وأما الميليشيات المرتبطة بـ"الحرس الثوري"، فإن بعضها يقصف "المنطقة الخضراء" ومطار بغداد، لا فقط القواعد التي تضم قوات أميركية، من دون أية محاسبة. وليت الحكومات تطبق بالفعل توجيهات المرجع الأعلى علي السيستاني.
وليس من المعقول إعادة العراق إلى ما كان عليه قبل قرن. ففي عام 1920 قال الملك فيصل الأول، "في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أية فكرة وطنية ومتشبعة بتقاليد وأباطيل دينية". وفي عام 2025 يبدو أن العراق يعود إلى مكوناته الطائفية في مرحلة ما قبل الدولة. والمعركة اليوم ليست معركة الانتخابات بل معركة ما بعد الانتخابات، معركة مستقبل العراق. فما تريده طهران إخراج أميركا عسكرياً وسياسياً وثقافياً من بلاد الرافدين. والميليشيات التابعة لها تصر على أن يكون البلد خلا من الوجود الأميركي في غضون نهاية العام الحالي. وما يريده رئيس الوزراء محمد شياع السوداني هو الاستناد إلى "اتفاق الإطار الاستراتيجي" مع أميركا لعام 2008 والتفاهم على شراكات ثنائية في مجالات عدة بدلاً من التحالف الدولي.
والواقع أن الصراع على العراق يدخل مرحلة بالغة الدقة والحساسية. فما تعمل له إيران بعد خسارة سوريا بسقوط نظام الأسد (الرئيس المخلوع بشار الأسد) واقترابها من خسارة غزة ولبنان، هو التمسك بالنفوذ الكبير في بغداد لأن خسارة العراق تسجل نهاية المشروع الإقليمي الإيراني. وهو أيضاً السعي إلى إعادة عقارب الساعة للوراء في سوريا ولبنان وغزة. وما تعمل له أميركا في توظيف حروب نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) في غزة ولبنان وتهديده بضرب الميليشيات المسلحة في العراق هو تغيير الشرق الأوسط وإقامة سلام شامل في المنطقة يرعاه الرئيس دونالد ترمب، سلام لا يكتمل إلا بانضمام إيران إليه، سواء في إطار صفقة مع واشنطن أو بعد ضربة عسكرية تقود إلى سقوط النظام. وإذا كانت طهران تقوم بمهمة مستحيلة بعد التحولات الجارفة، فإن التحديات ليست قليلة أمام الهندسة الأميركية للشرق الأوسط الجديد. ولا مستقبل للعراق إذا بقي دولة فاشلة عاجزة حتى عن معالجة الارتفاع في معدلات الفقر والبطالة وسوء الخدمات في الجنوب بصورة خاصة، وفي بقية المناطق بصورة عامة. فلا أنصاف المواقف باتت كافية، ولا الدوران في المأزق بين أميركا وإيران رياضة وطنية، والعراق يكون عربياً أو لا يكون سوى عراق آخر هجين في منطقة يعاد تشكيلها، ولا شرعية إلا الشرعية الوطنية.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية