
يبدو الأمر وكأننا نعود إلى سبعينيات القرن الماضي. فمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي مجموعة دولية تحظى باحترام واسع وتعد من أبرز الجهات الموثوقة في إصدار التوقعات الاقتصادية بعيداً من أي تحيز، تتوقع أن يحقق الاقتصاد البريطاني نمواً ضعيفاً لا يتجاوز 1.4 في المئة عند اكتمال [صدور] بيانات هذا العام، على أن يتباطأ أكثر ليبلغ واحداً في المئة خلال عام 2026.
ومقارنة بذلك، تشير أحدث الأرقام الصادرة عن مكتب مسؤولية الموازنة، وهو الهيئة الرقابية الرسمية في المملكة المتحدة، إلى توقع نمو قدره واحد في المئة هذا العام و1.9 في المئة العام المقبل. لكن من المتوقع إدخال خفوض كبيرة على هذه التوقعات الرسمية. ويعتقد معظم خبراء الاقتصاد أن النمو سيبقى دون اثنين في المئة طوال ما تبقى من هذا العقد المليء بانعدام اليقين. وللمقارنة، فقد سجلت المملكة المتحدة نمواً تراوح بين اثنين وثلاثة في المئة خلال معظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اندلاع الأزمة المالية العالمية خلال عام 2008.
وباختصار، فإن الأموال ستظل شحيحة لفترة من الزمن، وهو ما يعني – كما يفترض على نطاق واسع للأسف - ضرائب أعلى وإنفاقاً عاماً أقل مما هو مخطط أو مرغوب، مع استمرار تآكل مستويات المعيشة. وقد يشعر الناس أحياناً بأن الاقتصاد يقترب من حدود الركود، مع تسجيل معدلات "نمو سلبي" طفيفة. وتحذر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن التضخم سيبقى مرتفعاً نسبياً مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى - 3.5 في المئة هذا العام و2.7 في المئة العام المقبل - مع الزيادة الأكثر وضوحاً في أسعار المواد الغذائية. وهذا بدوره يعني أن بنك إنجلترا لن يسرع وتيرة خفض أسعار الفائدة عما ينوي القيام به حالياً.
شكل ضعف نمو الإنتاجية خلال سبعينيات القرن الماضي، كما هي الحال اليوم، مشكلة جوهرية ناجمة عن ضعف الاستثمارات، مما أدى إلى حلقة مفرغة من التدهور. وخلال تلك الحقبة أيضاً كانت الضرائب مرتفعة، وكان حجم القطاع العام مفرطاً بصورة زاحمت الاستثمارات الخاصة. لكن اليوم، يبدو أن هناك دفعاً أكبر نحو تطوير البنية التحتية، مثل توسيع مطار "غاتويك"، مقارنة بحقبة هيث وويلسون وكالاهان. آنذاك، كما الآن، كانت أسعار الطاقة مرتفعة، والمالية العامة هشة، والثقة الاقتصادية متدنية، فيما كان اليمين المتطرف يطلق أصواتاً تنذر بالشؤم - غير أن الفارق اليوم هو أن هذا اليمين بات أقرب بكثير إلى السلطة مما كان عليه قبل نصف قرن. وحسب تعبير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن بريطانيا ستكبل بفعل "زيادة التشدد في السياسة المالية وارتفاع كلف التجارة وحال عدم اليقين"، وهي عوامل قالت المنظمة إنها ستؤدي إلى "إعاقة الطلب الخارجي والداخلي".
لكن الخبر الجيد هو أننا نعلم كيف يجب أن نتصرف لأن الأوضاع الاقتصادية خلال سبعينيات القرن الماضي لم تدم إلى الأبد، ولم ينخفض دخل الفرد في المملكة المتحدة إلى ما دون مستوى بلغاريا الشيوعية كما كان يخشى حينها. أما الخبر السيئ فهو أن تحقيق أي من ذلك ليس سهلاً. فقد انضممنا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1973، وتراكمت المكاسب الكاملة في مجال القدرة التنافسية والوصول إلى الأسواق على مدى عقود، ولا سيما بعد إتمام السوق الأوروبية الموحدة التي جاءت بمبادرة بريطانية عام 1992. ومن حيث المبدأ، يمكننا تكرار ذلك عبر إعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا سيعني أيضاً عودة حرية تنقل العمال، ونحن في حاجة إلى معدلات هجرة أعلى لتعزيز النمو. ولن أخوض أكثر في هذا الاحتمال المثير للجدل، سوى أن حكومة ستارمر ستحتاج إلى التفكير في برنامجها الانتخابي المقبل.
وثانياً، أقدمت حكومتا تاتشر وميجر على تحرير الاقتصاد من القيود الحكومية. واليوم يجري التراجع عن بعض تلك الإصلاحات بصورة محدودة - في مجالات مثل سوق العمل والإسكان - بينما تشهد مجالات أخرى، ولا سيما التخطيط العمراني، تحسناً ملحوظاً. وعلى المدى البعيد، يفترض أن تعود هذه السياسات بفوائد، لكن من غير المتوقع أن تتحقق بصورة كاملة قبل نحو عقد من الزمن.
ثالثاً، شهدت أسعار النفط تقلبات حادة، وخلال الوقت نفسه بدأ نفط بحر الشمال بالتدفق، لكن الاتجاه الأهم على المدى الطويل كان نحو اقتصاد أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة وأقل اعتماداً على الوقود الأحفوري. واليوم، يفترض أن تؤدي الثورة الجارية في مجال الطاقة الخضراء داخل بريطانيا إلى خفض فواتير الشركات والأسر، غير أن اليقين حول ذلك ما زال ضعيفاً. ويتطلب الأمر مزيداً من الاستثمارات، سواء لتحقيق الفوائد للمستهلكين أو لأسباب جيوسياسية واضحة.
أما التطور الأبرز، والذي لم تدرك ملامحه بوضوح إلا في أواخر السبعينيات، فكان ما عُرف حينها بـ"ثورة تكنولوجيا المعلومات". فقد لعبت الحكومات دوراً داعماً، فيما "اخترع" الجيش الأميركي الإنترنت الذي غير الاقتصادات ومستويات المعيشة في معظم أنحاء العالم. وإن أتحنا المجال، قد يكون للذكاء الاصطناعي واستخدام الروبوتات التأثير نفسه مجدداً فينقذان البشرية من مستقبل قاتم.
ومع ذلك، ربما ما كان لأي من ذلك أن يحدث لولا صدمة انهيار المالية العامة في بريطانيا منتصف السبعينيات، وما تبعها من مسيرة طويلة وشاقة تخللتها انتكاسات عديدة تحت إدارات متعاقبة، من أجل السيطرة على الدين العام وكلفة خدمته.
وقد تطلب الأمر موازنات قاسية، وأعواماً من ارتفاع أسعار الفائدة والمعاناة خلال الثمانينيات والتسعينيات، لتحقيق ذلك الشرط الجوهري لنمو صحي أكثر.
وكما قيل خلال ذلك الوقت، لم يكن من بديل عن ذلك. والآن، لا خيار أمام وزيرة الخزانة راشيل ريفز سوى أن تفعل الأمر نفسه خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل [عند إعلانها بيان موازنة الخريف]. غالباً ما ينظر إلى رفع مساهمات أرباب العمل في التأمين الوطني على أنها عوامل تثبط النمو والتوظيف - بيد أنها ضرورية لتحقيق الاستقرار على المدى البعيد. ليست سياسات ريفز المشكلة، بل هي جزء من الحل. ويتعين عليها أن تحسن شرح ذلك بصورة أكبر.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية