"باور أوف سيبيريا 2": واشنطن تدفع الصين وروسيا إلى مزيد من التعاون
2025-09-09
أنس الحجي
أنس الحجي

أحد اهتماماتي البحثية هو النتائج غير المحسوبة للقوانين والسياسات الحكومية، بخاصة تلك التي تؤدي إلى نتائج عكس المستهدف من هذه القوانين والسياسات، وبصورة خاصة في أسواق الطاقة. مقال اليوم يركز على تطورات جديدة في العلاقات بين الصين وروسيا توضح أن سياسات أميركية تهدف إلى تعزيز الأمن القومي والاقتصادي تؤدي إلى عكس ذلك: تعرّض الأمن القومي والاقتصادي للخطر.

تهدف الحكومة الصينية إلى تعزيز أمن الطاقة من طريق تنويع مصادر الواردات. وعلى رغم زيادة واردات الغاز عبر أنابيب الغاز من روسيا إلى مستويات تاريخية، فإن بكين أدركت أنها لا تريد تكرار خطأ أوروبا بالاعتماد الكبير على الغاز الروسي، لهذا رفضت مشروع خط أنابيب "باور أوف سيبيريا 2" لأنه يزيد من اعتماد الصين على روسيا. في الوقت نفسه أدركت إدارة الرئيس بوتين بعد خسارة جزء كبير من السوق الأوروبية وزيادة صادراتها للصين، أن عليها تنويع عملائها حتى لا تكون رهينة للصين سياسياً واقتصادياً.

المشكلة جغرافية لأن تصدير روسيا غازها عبر الأنابيب لا يتم إلا لأوروبا أو إلى الصين. أوروبا لم تعد خياراً، ووصل مقدار الاعتماد على الصين إلى مستويات تعرض صناعة الغاز الروسي للخطر، لهذا تم التركيز على الغاز المسال لأنه يمكن إيصاله إلى أي مكان في العالم، وتم بناء محطة "أركتيك أن أل جي 2" على أن يتم توسيعها لاحقاً. وبهذا ضعفت أهمية أنبوب "بور أوف سيبيريا 2" بالنسبة إلى روسيا.

لكن الحروب التجارية التي تشنها إدارة ترمب جعلت الصين تتوقف عن استيراد الغاز المسال الأميركي وجعلها تركز أكثر على غاز الخليج، وتم توقيع عقود جديدة مع الإمارات وقطر. قامت إسرائيل بالهجوم على إيران، وهذا أمر كان يتوقعه كثير من المحللين السياسيين منذ أكثر من 10 أعوام. المشكلة بالنسبة إلى الصين كانت ضرب الأميركيين إيران والترويج لفكرة إغلاق مضيق هرمز في الإعلام الغربي، الذي يعني حرمان الصين من الغاز المسال القطري والإماراتي. هذا الأمر جعل الصين تعود إلى التفكير بخط "باور أوف سيبيريا 2"، وهذا يتفق مع سياستها الجديدة وهي خفض واردات الطاقة الآتية من طريق البحر، وذلك تحسباً لوقوع حرب أو حظر اقتصادي يجعل الولايات المتحدة وحلفاءها الأوربيين يغلقون مضيق ملقا.

بالنسبة إلى الروس، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا حظراً على محطة "أركتيك أل أن جي 2" وعلى كل الحاملات المرتبطة بها، مما دمّر أحلام الروس بتنويع عملاء الغاز، فأعادوا النظر في موضوع خط أنابيب "باور أوف سيبيريا 2".

النتيجة أن السياسات الأميركية المتعلقة بالحروب التجارية والتعريفة الجمركية، والهجوم على إيران، والحظر على محطة الغاز المسال الروسية أدت إلى وقف استيراد الصين للغاز المسال الأميركي وتعزيز العلاقات مع روسيا لاستيراد مزيد من الغاز، وهذا عكس ما تريده الحكومة الأميركية.

"باور أوف سيبيريا"

يربط هذا الخط بين حقول الغاز الروسي في شرق سيبيريا والصين. بدأ تشغيله في ديسمبر (كانون الأول) 2019. يبلغ طوله نحو 3 آلاف كيلومتر في الجانب الروسي، ويمتد في الصين إلى 3371 كيلومتراً حتى شنغهاي، مع قدرة تصل إلى 38 مليار متر مكعب سنوياً. بلغت قيمة الصفقة 400 مليار دولار على مدى 30 عاماً، وله آثار اقتصادية وسياسية في البلدين وفي أسواق الطاقة العالمية.

تعود فكرة خط غاز بين روسيا والصين إلى أواخر التسعينيات، حين كانت روسيا تبحث عن أسواق جديدة لاحتياطاتها الضخمة من الغاز، بينما كانت الصين تسعى إلى تنويع مصادر طاقتها لدعم نموها الاقتصادي السريع.

وافقت وزارة الصناعة والطاقة الروسية على "برنامج الغاز الشرقي" في 2007، الذي تضمن بناء خط "ياقوتيا-خاباروفسك-فلاديفوستوك". تم تغيير اسمه لاحقاً إلى "باور أوف سيبيريا". في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ببدء الإنشاء، لكن المشروع تأخر بسبب خلافات حول الأسعار والمسار. النقطة التحولية جاءت في مايو (أيار) 2014، بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، مما أدى إلى عقوبات غربية شديدة وأجبر روسيا على النظر شرقاً. وقَّعت روسيا والصين صفقة غاز تاريخية بقيمة 400 مليار دولار، تضمنت توريد 38 مليار متر مكعب سنوياً لمدة 30 عاماً.

بدأ الإنشاء في سبتمبر (أيلول) 2014 وتم ملء الخط بالغاز في أكتوبر 2019، وبدأ التوريد الفعلي في الثاني من ديسمبر 2019 بحضور بوتين وشي جينبينغ عبر اتصال فيديو. في 2020، بلغت الواردات 4.1 مليار متر مكعب، وارتفعت إلى 22.7 مليار في 2023، متجاوزة الالتزامات التعاقدية. بحلول ديسمبر 2024، اكتمل الخط بالكامل في الصين، مما أدى إلى زيادة ضخ الغاز في الأنبوب إلى طاقته القصوى إذ ارتفعت صادرات الغاز الروسية إلى أعلى مستوى لها تاريخياً في الأشهر الأخيرة.

لهذا الأنبوب أهمية اقتصادية كبيرة للطرفين، إذ عوض روسيا عن خسائرها في الأسواق الأوروبية، إذ انخفضت صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا بنسبة 80 في المئة تقريباً منذ بداية 2022. وتبلغ إيرادات روسيا من الخط ما بين 20 و30 مليار دولار سنوياً. وتتضمن الفوائد لروسيا تطوير الحقول في ياقوتيا وتطوير صناعات رديفة وخلق عدد كبير من الوظائف وتطوير البنية التحتية في هذه المناطق النائية.

أسهم الانبوب في دعم أمن الطاقة في الصين من طريق تنويع الواردات من جهة، وكون هذه الواردات عبر الأنابيب وليس عبر البحر، بعيداً من تأثيرات القوات البحرية الأميركية والأوروبية. ويدعم النمو الاقتصادي لأن هذا المصدر الروسي للغاز أرخص مصدر مقارنة بالغاز من ميانمار أو من وسط آسيا. كذلك فإنه أرخص كثيراً من الغاز المسال، ويدعم الأمن البيئي من طريق استخدام الغاز بدلاً من الفحم.

مع توقيع مذكرة لـ"باور أوف سيبيريا 2" الذي يضيف 50 مليار متر مكعب لواردات الصين من روسيا، يتعمق التحالف الروسي الصيني ويُعيد رسم التوازنات الجيوسياسية. الدرس المهم هنا أن السياسات الأميركية لها انعكاسات على أسواق الطاقة العالمية، حتى لو لم تكن هذه السياسات متعلقة بالطاقة. لا أحد يعرف ماذا سيكون رد فعل إدارة ترمب على هذا الاتفاق، لكن إذا حصل أي اتفاق تجاري مع الصين، ستعود بكين إلى استيراد الغاز المسال الأميركي، لكن بكميات محدودة.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • ماذا تعرف عن حروب الغاز المسال؟
  • هل أدت سياسات التغير المناخي الغربية إلى الحروب التجارية الحالية؟
  • ترمب والممرات المائية وحروب الغاز  







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي