
إذا ما كانت حرب الأيام الـ 12 التي شنتها إسرائيل على النظام الإيراني قد وضعت نهاية لحرب استنزاف طويلة وصراع غير مباشر استمر بين الطرفين، ونقلت المواجهة بينهما من كواليس الحرب الأمنية السرية أو عبر وكلاء وأذرع أمنية وإقليمية إلى مواجهة مباشرة، بات على كل طرف منهما إظهار حجم قدرته وقوته من أجل تثبيت موقعه كقوة إقليمية، فإن هذا التحول أو الانتقال فرض تغييراً جوهرياً في طبيعة الصراع الذي ساد في منطقة الشرق الأوسط، استعرض في هذا الصراع أوراقه الإستراتيجية تحت سقف الحفاظ على مبدأ "توازن الرعب" وتبنيه كمعادلة جديدة بينهما للمرحلة المقبلة، وذلك على أنقاض مبدأ الردع القديم الذي خرج من المعادلة بصورة يبدو أنها نهائية، ولعل الأزمة التي يمر بها الحليف اللبناني لإيران، أي "حزب الله"، والمتمثلة بمحاصرته لبنانياً وإقليمياً ودولياً، وما يتعرض له من ضغوط تطالبه بتسليم سلاحه للدولة اللبنانية، تشكل تعبيراً واضحاً عن انهيار مبدأ الردع القديم الذي شكل عصب إستراتيجية المواجهة الإيرانية مع أعدائها في منطقة غرب آسيا، وتحديداً إسرائيل وأميركا، بعد أن شكّل "حزب الله" رأس الحربة الإيرانية في حروب الوكالة وخط الدفاع الأول عن المشروع الإيراني والعمق الإستراتيجي للنظام في الإقليم.
ويمكن القول إن المعادلة الواضحة التي أنتجتها هذه الحرب أنها سمحت لكل طرف بإثبات قدراته، الإسرائيلي في تفوقه الاستخباراتي والجوي بعد أن استطاع توجيه ضربة قاسية في اللحظات الأولى للحرب باغتيال كبار القادة العسكريين في "حرس الثورة" ومجموعة من أبرز علماء البرنامج النووي في العاصمة طهران، بما تمثله من عمق السيادة الوطنية للنظام، وفي المقابل استطاع الجانب الإيراني إظهار قدرته القائمة على الردع الصاروخي بعد أن تمكن من اختراق أكثر الأنظمة الدفاعية تطوراً وفعالية، وأسقط فعاليتها وقدرتها على تأمين غطاء دفاعي ليس فقط لتل أبيب، بل لكل الأطراف التي تستند في دفاعاتها إلى هذه المنظومات.
وعلى رغم فرض طرفي الحرب معادلة "توازن الرعب" بينهما إلا أن النظام الإيراني يواجه تحدياً مصيرياً أو أساسياً يتمثل في محاولة استعادة عافية قدرته الردعية وقوته الإقليمية، لأن ما تعرض له من اختراق أمني واستهداف وتدمير البنى التحتية الحساسة، سواء في الجانب العسكري والصاروخي أو في المنشآت النووية، سيشكل مؤشراً سلبياً على ضعفه الإستراتيجي أمام القوى الإقليمية الفاعلة، وقد ينتج منه إضعاف المرجع الجيوسياسي لإيران، كما يحصل على حدودها الشمالية مع منطقة القوقاز الجنوبي وأزمة الممر البري بين شطري أذربيجان "ممر نكزور" داخل الأراضي الأرمينية، مما يضع النظام في معرض ضغوط سياسية وأمنية إقليمية ودولية، ولعل الخدمة التي قدمتها حرب الأيام الـ 12 لإيران أنها كانت بمثابة تحذير جدي مما وصلت إليه الأمور داخلياً ودولياً، ولا بد من البدء في النظر بكل ما كان قائماً خلال العقود الماضية، سواء في علاقة السلطة مع المواطنين ومفهوم الأمة والشعب والسلطة، والتي تفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة والمفاهيم السياسية، بما فيها من معادلات سياسية واجتماعية يجب الاعتراف بها وإعطاؤها المساحة الطبيعية لتكون قادرة للتعبير عن نفسها، بخاصة أن حال التضامن والالتفاف حول إيران التي برزت بين صفوف القوى المعارضة في الداخل والفئات الاجتماعية المتنوعة، والتي هي على خلاف واختلاف مع نظام الحكم القائم، سمحت بطرح أسئلة صريحة ومباشرة حول الأضرار التي لحقت بإيران جراء السياسيات السابقة التي قسمت الإيرانيين بين موال وغير موال للنظام، وأن التيار المتشدد ألحق أكبر الأضرار والخسائر بإيران وفوت عليها كثيراً من الفرص للخروج مما تعانيه وتواجهه من أزمات في علاقاتها مع المجتمع الدولي.
ويبدو مما يجري تداوله بين الأوساط الإيرانية أن مسار الترميم الجدي قد بدأ بالفعل وأن خطوات عملية بدأت بالتبلور، بالتزامن مع مؤشرات على نوع من الواقعية والعقلانية في التعامل مع الحقائق التي تكشفت جراء هذه الحرب، من وجود اختراق أمني وخيانة وصلت إلى الصفوف الأولى وسمحت بهذه الخسائر المؤلمة، وهو مسار يؤسس لإعادة إنتاج المؤسسات الأمنية وإعادة بناء الثقة بين النظام والدولة من جهة، والشعب من جهة أخرى.
إن الحديث عن إمكان عودة كبير مستشاري المرشد الأعلى علي لاريجاني للمجلس الأعلى للأمن القومي كممثل للمرشد، وأمام اكتمال نصاب أعضاء هذا المجلس، فإن عودة لاريجاني لا بد من أن تكون على حساب واحد من اثنين يمثلان حصة المرشد في المجلس، أي أمين المجلس الجنرال علي أكبر أحمديان ومديره التنفيذي سعيد جليلي، وفي ظل الحديث عن إمكان تولي لاريجاني منصب أمين المجلس بديلاً عن أحمديان وانتقال الأخير لتولي إدارة "مجلس الدفاع" المستحدث في المجلس الأعلى للأمن القومي الذي أُعلن عن تشكيله أخيراً، فإن جليلي سيكون المرشح للخروج من التركيبة مما سيشكل ضربة قاسية للتيار الراديكالي الذي تمثله "جبهة الصمود - بايدراي"، فإخراج جليلي من المجلس الأعلى للأمن القومي يعني إبعاده من دائرة القرارات الإستراتيجية، لأن عضويته في مجمع تشخيص مصلحة النظام لا تملك هذا التأثير أو القدرة على أن يكون على اطلاع على السياسات الإستراتيجية للنظام والدولة، وهو قرار يأتي نتيجة قناعة لدى المرشد بالآثار السلبية للسياسات التي عبرت عنها هذه الجماعة منذ رئاسة محمود أحمدي نجاد للجمهورية وحتى الآن، وهي خطوة متقدمة بعد الخطوات التي بدأت بمحاصرة توجهات هذه الجماعة "بايداري - الصمود" في البرلمان وإحباط كل محاولاتها لجر الأوضاع الداخلية نحو التصعيد والتفجير من خلال "قانون الحجاب" الذي رفضت حكومة الرئيس مسعود بزشكيان إصدار القوانين التطبيقية له، ودعم المرشد له في هذا الموقف الذي نزع فتيل إعادة تفجير الشارع كما حصل بعد مقتل الفتاة مهسا أميني، وصولاً إلى سحب الحكومة لمشروع لقانون جرائم الإعلام الإلكتروني والمنصات الإعلامية.
هذه الخطوات التي تجري بموافقة مباشرة أو ضمنية من المرشد الأعلى، والتي تشير إلى مسار جدي لدى السلطة بمحاصرة واستبعاد الخطاب المتشدد، تعبر عن إدراك المرشد وقيادات هذه المنظومة حجم الأخطار التي تحيط بالنظام ومستقبله، وأن المرحلة المقبلة تستدعي إبداء ليونة جدية وليست مرحلية في ما يتعلق بالخطاب السياسي، والتعامل مع مكونات الشعب الإيراني الحزبية والسياسية والإثنية والثقافية والاجتماعية، تنقل إيران إلى مرحلة جديدة يمكن تمسيتها بإعادة إنتاج أو ولادة جديدة للثورة والجمهورية.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية