هل فعلاً سينتهي عصر الميليشيات؟
2025-07-28
وسام سعادة
وسام سعادة

ثمة مقولة آخذة في الانتشار منذ مدة. ترى أن سمة المرحلة الراهنة من عمر الشرق الأوسط تقضي بفرط الميليشيات من بلد لآخر وتقويض مشاريع الأمن الذاتي سواء بسواء، ورد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية واحتكارها السلاح، أو منظومة العنف الشرعي.
يأتي رواج هذه المقولة بعد سنوات غلب فيها التأقلم، أو التسليم، بازدهار وقائع ومناخات التوازي تارة والتداخل تارة أخرى، بين الجيوش النظامية وبين الميليشيات، وتغول الطغيان في مقابل ضعف قدرة الدولة نفسها الرازحة تحت هذا الطغيان من التمدد بوظائفها السيادية والاجتماعية على حد سواء في اتجاه الأطراف. حتى بدا الأمر وكأن «عصر الميليشيات والشركات الأمنية» مسلّمة لا مناص من التكيف معها، ما دامت مرشّحة لأن تكون مزمنة ومستعصية على التجاوز.
نحن في الحالتين أمام الأسلوب المبتور نفسه: الذي يقوم على التقاط منحى، قد تلتمس لمحة منه في هذا الملف أو يبرز ما يسوغه في ظرف بعينه، ثم يصعب إيجاده بغير الافتعال في نطاق آخر. ثم يتم تحويل هذا المنحى، الجزئي، الطيفي، المتأرجح، الى قانون غائي يحكم حركة التاريخ الراهنة، بكل مفارقة الكلام أساسا عن الراهن وحركة التاريخ في خلطة واحدة. بالأمس، راج التسليم أو التهليل بعصر استدامة الميليشيات، واليوم ثمة من يردد فعل الإيمان بأن الأمور سائرة لعودة الروح للدولة لا للفئات ولا للفصائل.
في الحالتين أيضاً يراد إشاعة منطق خرافي من نوع أن ثمة كلمة سر تصدر، ببعثرة الإقليم الى ميليشيات تارة، أو إعادة تأهيله في صناديق الدول ضمن شاحنة تبريد مشتركة تارة أخرى. لا يعني ذلك أنه ليس هناك إملاءات في العلاقات الدولية والإقليمية، لكن بناء الدول أو فرط عقدها لا يمكن أن يجري تناوله من دون الاستفهام عن «طريقة التحضير». لا يمكن أن تصدر أي دولة عظمى قرارا بإنهاء الوجود الميليشياوي في بلد بعينه مع إسناد احتكار العنف الشرعي الى ميليشيا واحدة من بينها ثم ينتظر بعد ذلك أن يتم بالفعل التحول في هذا النطاق من حال التوحش الى حال التمدن وحاكمية القانون.
الفظيع في كل هذا هو كيف تستحضر مقولة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير، حين كرّس مقولة احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي كخاصية مركزية للدولة الحديثة. فيبير شدد على هذه المقولة، إنما في سياق تاريخي: شيوع الميليشيات بأول سنوات جمهورية فايمار بألمانيا. وموقفه منها: علماً أن جمهورية فايمار استعانت بميليشيات يمينية من فلول جيش الرايخ الثاني المهزوم في الحرب الكبرى وغيرهم، أي عصائب الفرايكوربس، لضرب الميليشيات السبارتاكية – الشيوعية. لأجل ذلك، حتى في حالة فيبير احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي جاءت تغطي كمقولة على واقع أكثر تعقيداً وأشد خبثاً قامت فيه «الدولة» حينها بالاستعانة بإرهاب الفرايكوربس «لفرض» القانون، وهو ما أسس بالنتيجة لكامل الفصام في تاريخ جمهورية فايمار الذي سهل تعبيد الطريق لاحقاَ لصعود القومية – الاشتراكية.

   

لا تتبنى الناس في بلاد المشرق بكليتها شعار الفدرالية، وهو في النهاية عنوان عريض، وليس صيغة دستورية أو خارطة إدارية جاهزة

فإذا كانت القصة مختلة حتى في نموذجها المصدري ـ الفيبيري، فكيف الحال حين تكلف ميليشيا بإعادة تشكيل الدولة؟ كل هذا في كفة وفكرة أنه يمكن الانتقال من عصر الميليشيات الى عصر «رجعة الدولة الوطنية» دون المرور بالحاجة الى إعادة تشكيل تعاقدات وطنية في كفة أخرى. لكن ذلك انعكاس لمشكلة أكثر عمقاً. وهو أن هذه التعاقدات الاجتماعية لن تقوم بالمكابرة على واقع التعددية الإثنية والدينية والإقليمية الذي أدى الإفراط في طول المكابرة عليه ككل، مع مزاولة سياسات تمييز هوياتية في الوقت نفسه، الى مفاقمته والتهابه. بمعنى آخر: عدم استعداد الخيال السياسي للاشتغال، يؤدي الى اختزال الإمكان الوحيد للدولة الوطنية، في تلك المستحيلة، الدولة النافية للتعددية بين جماعات ضمن حدودها، ثم يجري مضاعفة الاستحالة بالعبث: إسناد مهمة فرط جهاز دولة سابق وبناء جهاز دولة بديل الى جماعة مسلحة.
وهذه هي الطامة. فمن يخبرنا طول الوقت أن عصر الميليشيات قد ولى، وأن عصر الدولة الوطنية قد أزف وأقبل، لا يستطيع تخيل هذه الدولة العتيدة غير في مظهرها المشتهى والمريح كدولة مركزية، تعمل على انصهار مواطنيها في بوتقة واحدة، قبل أن يتبين لك في الوقت نفسه أن صاحبنا نفسه غير قادر أيضا على تبني مبدأ المساواة الكاملة بين المواطنين لأي دين وقوم انتموا، هم نفسهم الذي يريد دمجهم في هذه السبيكة الجماعية النافية للتنوع، والمتهربة من السواسية. في حين أن المفترض هو العكس تماما: عدم توقع إمكانية استنهاض فكرة الدولة من دون استصلاح العقد الاجتماعي. وعدم توقع إمكان ذلك إلا من خلال أطر منطلقة من التعددية المجتمعية والحضارية الموجودة بالملموس – والمحتقنة – في هذه المجتمعات.
وهنا لا بد من الإقرار. بأنّ كلام النخب أسوأ من كلام عامة الناس على هذا الصعيد بأشواط. لا تتبنى الناس في بلاد المشرق بكليتها شعار الفدرالية، وهو في النهاية عنوان عريض، وليس صيغة دستورية أو خارطة إدارية جاهزة، لكن أغلب الناس ما عاد يعتبر أن الفدرالية هي كلمة محظور نطقها، في حين تجري شيطنة هذه الفكرة بألف حيلة ليل نهار، على لسان «الخاصة».
الأدهى أولئك الذين لا يمانعون الفدرالية بشرط أن لا تكون طائفية. في حين أن أي طرح في الاتجاه اللامركزي أو الاتحادي أو ربما حتى التعاضدي تبدأ قيمته من هنا تحديداً. من الحاجة الى إعمال التمييز ضمن ما نسميه عادة «الطائفية» بين قسمين. أحدهما لا يشكل مشكلة على الإطلاق، الا لأن الفدرالية ممتنعة، ولأن عيش الخصوصيات المناطقية مرذول ومستقبح. والثاني، يعبر عن مشكلة، لأنه يلعب لعبة الدولة المركزية حين يتمكن من التغول بواسطتها، ثم ينطوي على نفسه ما أن يستبعد من عطاياها كدولة.
لقد دخل عصر الميليشيات في مرحلة عسيرة منذ عامين. لا غرو في ذلك. لا يعني ذلك أن الرجعة الى مفهوم الدولة الوطنية حتمية تاريخية في المقابل. في الحالتين نحن أمام هروب من الحاجة الى التوازن بين اثنتين. التعددية الثقافية، والتعددية السياسية. والحال أنه، إذا كانت هناك تجارب كالحة عديدة استعدت التعددية الثقافية بحجة الحفاظ على التعددية السياسية، وهناك من أقدم على العكس، فإن ما يجري حاليا هو استبعاد التعدديتين في وقت واحد. ليس هناك أي قياس سليم يمكن أن ينتصر لشعوب منتفضة على طغاتها ثم يقبل أن تصادر الحقوق والحريات السياسية والثقافية معاً، ويعود فيعمّ «الموت غيلة»، هذا الموت الذي ذهب توماس هوبز في القرن السابع عشر الى أن السأم والخوف منه هو في أساس الدافع للتعاقد الاجتماعي.

 

*كاتب من لبنان
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - القدس العربي

 



مقالات أخرى للكاتب

  • ليس هناك من تطهير إثني «أعمى»
  • هل انتهى الانقسام اللبناني حول «المسألة السوريّة»؟
  • لبنان لم يستفق بعد من اختبار «نهاية الأزمان»







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي