المسألة السورية: أيُ مركزية ولا مركزية؟
2025-05-07
رفيق خوري
رفيق خوري

دمشق في حاجة إلى دور أميركي ودور روسي إضافة إلى الدعم العربي لضبط الصراع بين تركيا وإسرائيل على سوريا، والحاجة الملحّة والأساس هي إلى الرهان على العصب الوطني التاريخي في البلد وتقوية الوحدة الوطنية، ومعالجة الحساسيات والعصبيات الطائفية، ووضع حد نهائي لسياسة التكفير واستسهال ارتكاب المجازر ضد الأقليات.

وليس أخطر من العجز عن حماية البلاد من التغول الإقليمي، ولا سيما الإسرائيلي منه، سوى تجاهل المخاوف والمطالب لدى الكرد والعلويين والدروز والمسيحيين، وحتى لدى الأكثرية التي ليست جهادية، ولا أهم من الحوار بين السلطة الجديدة والأقليات سوى القدرة على تغليب العقل والواقعية في معالجة المطالب والمخاوف.

واللافت أخيراً هو مسارعة الرئاسة إلى الرد على مخرجات "المؤتمر الوطني الكردي"، وظهور دعوات حمّالة أوجه في الساحل الغربي، والرفض الدرزي بصوت واحد للفتنة وتأكيد التمسك بوحدة سوريا.

"المؤتمر الوطني الكردي" الذي ضم 300 شخصية من كل الأحزاب الكردية، قدّم لائحة مطالب تتركز على "نظام برلماني بغرفتين، يقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، مع اعتماد مجالس للمناطق في إطار النظام المركزي، ولا مركزية تضمن التوزيع العادل للثروة والسلطة"، فضلاً عن "المطالبة بجمعية تأسيسية برعاية أممية لصياغة دستور جديد بمبادئ ديموقراطية، وتشكيل حكومة جامعة والإعتراف الدستوري باللغة الكردية كلغة رسمية".

والرئاسة ردت متهمة "قسد" بمخالفة الاتفاق بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، ورافضة أية دعوات إلى "فيدرالية أو لا مركزية"، معتبرة أن "وحدة سوريا خط أحمر"، وأنه لا مجال لاستئثار مكون واحد بمنطقة، ومن الصعب بالطبع أن يحصل الكرد على لا مركزية واسعة في منطقة يسمونها "روجافا"، تكون على غرار إقليم كردستان العراق.

لكن من الصعب أيضاً إعادة الكرد للوضع الذي كانوا عليه في الماضي، فما حدث في حرب سوريا منذ عام 2011 أحدث متغيرات دراماتيكية وتحولات مهمة، والمسألة في المعالجة ليست المركزية أو اللامركزية، بل أيُ مركزية ولا مركزية؟ فالنظام السوري مركزي على الطريقة الفرنسية منذ قيام الجمهورية تحت الانتداب، لكن المركزية مرت بمرحلتين، ما بعد الاستقلال حتى الوحدة بين سوريا ومصر، وما بعد سقوط الوحدة وبدء حكم البعث وآل الأسد.

في المرحلة الأولى كانت المركزية ناعمة، دمشق مركز السلطة، لكن زعماء الأطراف لهم أدوار كبيرة في مناطقهم، من سلطان باشا الأطرش في السويداء وحلفاء صالح العلي في جبال العلويين إلى آل الجابري في حلب والآتاسي في حمص و البرازي والحوراني في حماة، وفي المرحلة الثانية صارت المركزية شديدة جداً، فكل السلطة للرئيس في دمشق والبقية موظفون عنده، لا زعماء في المناطق ولا شخصيات قيادية حتى في "حزب البعث" الحاكم للدولة والمجتمع، بل مجرد أسماء تنتقيها دمشق لممارسة السياسة المقررة من الرئيس.

كثير من تصحير السياسة والثقافة إلى حد إلغاء الحياة السياسية، وكثير من العنف والقمع في ممارسة السلطة والإمساك بالنقابات وتدجين الأحزاب التي يضمها النظام تحت جناح "البعث" في إطار جبهة وطنية هي مجرد واجهة وراءها فراغ، وأليس حكم الشخص الواحد لشعب مسلوب الإرادة بوليصة ضمان للفراغ؟

هذا الوضع كان واحداً من الأسباب التي قادت إلى بدء الثورة على النظام انطلاقاً من درعا وصولاً إلى دمشق وبقية المدن، تظاهرات سلمية تحت شعار "شعب واحد من كل المكونات"، تطالب بالتغيير الديموقراطي والمشاركة الشاملة في السلطة، لكن النظام اختار مواجهة المتظاهرين بالرصاص والقمع وتحويل الثورة إلى حرب، وفي الحرب يتقدم المتشددون وينكفئ المعتدلون وتسود سياسة "التطيّف والتطرف"، وفي الحرب تكثر التدخلات الخارجية ومعها دفع جهاديين سلفيين من الخارج إلى سوريا للمشاركة في الحرب، وبكلام آخر فإن الأوضاع التي أحدثتها الميليشيات في مواجهة النظام تحتاج إلى معالجة واقعية وعقلانية، فلا المركزية الشديدة هي الحل، ولا اللامركزية الرخوة هي الحل، والمطلوب نوع مرن من المركزية لضمان وحدة سوريا، ونوع منضبط من اللامركزية لضمان مشاركة الشعب في إدارة قضاياه المحلية.

يروي الملك الحسن الثاني في مذكراته بعنوان "ذاكرة ملك"، أنه حين كان رئيساً للوزراء أيام والده الملك محمد الخامس، سأل الزعيم السوفياتي بريجنيف عن نصيحة حول خطة خماسية مركزية لتطوير الوضع في المغرب، فقال له "ابتعد من الخطط الخماسية والعشرية، لأن أي خطأ فيها يصعب إصلاحه، في حين أن الخطط القصيرة قابلة للإصلاح فور اكتشاف الخطأ"، والمركزية الشديدة في سوريا وصفة لأخطاء يصعب إصلاحها كما برهنت الوقائع في النظام المنهار، وأكثر الأنظمة نجاحاً هي الأنظمة الفيدرالية أو اللامركزية، بحسب النماذج في أميركا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وسواها.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • ما بعد غزة.. حرب سلام ترمب
  • توظيف متعدد الجبهات لثلاث أغلاط استراتيجية
  • قمة بوتين والنموذج الإسرائيلي







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي