
لا قائد يذهب إلى قمة رهانه فيها على ما يمكن أن يقدمه القائد الآخر، لكن الرئيس دونالد ترمب فعلها كأنه "مسافر زاده الخيال" في القصيدة التي غناها محمد عبدالوهاب عن النيل الذي هو "ظمآن والكأس في يديه"، فقد ذهب إلى قمة ألاسكا متصوراً أنها قمته وفرصته لتحقيق نهاية لحرب أوكرانيا، فوجد نفسه في قمة الرئيس فلاديمير بوتين وإصراره على التسليم بأكثر مما أخذه بالغزو العسكري.
وأكمل ترمب اللعبة بدعوة الرئيس فولوديمير زيلنسكي إلى البيت الأبيض مصحوباً برؤساء أوروبيين، وليس على الطاولة سوى بند وحيد هو ما طلبه بوتين لوقف الحرب على أوكرانيا، والمعادلات مكتوبة على الجدار، فقمة ألاسكا تحتاج إلى ختم أوكراني وأوروبي في قمة واشنطن المحكومة بمخرجات قمة ألاسكا في الملف الأوكراني، وقمة واشنطن خارج اللعبة بالنسبة إلى المواضيع الثنائية والدولية التي فتحت ملفاتها القمة.
يقول روبرت كيوهان وجوزف ناي في مقالة نشرتها "فورين أفيرز" بعنوان "نهاية القرن الأميركي الطويل"، إن مصادر القوة ثلاثة: الإجبار والدفع والجاذبية، لكن ترمب يتجاهل الجاذبية ويريد القبض بدل الدفع ويركز على الإجبار.
وعلى عكس الرئيس الأميركي السابق تيدي روزفلت الذي قال "تكلم بصوت ناعم واحمل عصا غليظة"، فإن ترمب يستخدم كلاماً خشناً ويحمل عصا غليظة جداً، ثم سرعان ما يتخلى عن الكلام ويترك العصا حين تلوح أمامه فرصة لصفقة، وأقل ما يراه كيوهان وناي هو أنه "في شعار لنجعل أميركا عظيمة ثانية رهان كارثي على ضعفها عبر القوة الخشنة".
ويرى سيرغي رادشنكو في كتاب "حرب الكرملين الباردة من أجل القوة العالمية" أن "جذور الطموح السوفياتي ليست بالضرورة سوفياتية، بل مزيج مما هو قبل السوفياتية وما بعدها"، والهاجس لدى قادة روسيا من القياصرة إلى السوفيات إلى بوتين هو "الشرعية التي تحتاج إلى اعتراف الغرب بها"، وبوتين يشكو من الأحادية الأميركية على قمة العالم ويطالب بالمشاركة والتعددية القطبية، ويقول، على رغم الرسملة على مواجهة أميركا، "نريد أن يكون الروس والأميركان شركاء، لكننا نشعر أن أميركا تعاملنا كضيف غير مدعو إلى مأدبة، والآن جاء ترمب وفك ما سمته تاتيانا تولستويا، حفيدة تولستوي، القفل الثقيل على الباب، ومشى بوتين على السجاد الأحمر الممدود أمامه في ألاسكا".
وليس قليلاً ما حققه بوتين رمزياً وعملياً خلال القمة من دون أن يقدم حتى وقف النار في أوكرانيا أثناءها، وموجز ما حققه خلال ساعات في أنكوراج يمكن اختصاره في سبعة أمور، الأول فك العزلة الروسية الغربية من الباب الأميركي وسط التصعيد المستمر في حربه على أوكرانيا، والثاني فصل العلاقات الروسية - الأميركية عن مجريات الحرب في أوكرانيا، والثالث الفصل بين أميركا وأوروبا في إدارة العلاقات مع موسكو، والرابع بعد العجز العسكري عن احتلال أوكرانيا خلال أسبوع كما كان مخططاً له في"العملية العسكرية الخاصة" التي تحولت حرباً دخلت عامها الثالث، هو الإصرار على ربط إنهاء الحرب بتسليم كييف وعواصم أوروبا، وبالطبع واشنطن، بأن تصبح شبه جزيرة القرم والدونباس شرق أوكرانيا، وعملياً أربع مقاطعات واسعة أرضاً روسية معترفاً بها رسمياً، لا بل الإصرار على أن يأخذ ما احتله في دونينسك ولوغانسك وما لم يحتله بعد، مطالباً بانسحاب الجيش الأوكراني في مقابل ما سمي "تبادل أراض" في سومي وخاركيف، وكلها أراض أوكرانية.
أما الخامس فهو الحصول على ضمانات بالتخلي عن أي توجه نحو عضوية أوكرانيا في الـ "ناتو"، والسادس تخفيف بعض العقوبات الأميركية على الطريق إلى إلغاء كل العقوبات مع روسيا، والبدء بإعفاء الصين من العقوبات على شرائها النفط الروسي، والسابع التطبيع مع أميركا في مجالات عدة، إضافة إلى محافظة موسكو على "شراكة بلا حدود" مع الصين و"شراكة إستراتيجية" مع كوريا الشمالية وعلاقات متعددة مع إيران.
ومن الصعب على زيلينسكي وقادة أوروبا التسليم بشروط بوتين، بصرف النظر عن الرغبة في وقف الحرب وضغط ترمب لإجبار الرئيس الأوكراني على قبول صفقة على حساب الأرض والسيادة، والذي إذا نجح فسيؤدي إلى عواقب وخيمة في الوضع الداخلي الأوكراني كما في الوضع الجيوسياسي الأوروبي، فالأمين العام للـ "ناتو" مارك روته يقول في حديث مع الـ "تايم" الأميركية إنه "مقتنع بأننا في أمان الآن، ولكن روسيا تجدد قواتها المسلحة، وإذا لم ننفق كثيراً إلى جانب التصنيع الدفاعي، فإن الروس يمكن أن يجربوا فعل شيء".
وكثير من المحللين في أوروبا يتحدثون عن شهية بوتين للتوسع، ويرجحون بحسب الـ "تايم" أن يكمل سياسة ضم كل أرض تعيش فوقها أقلية تتكلم الروسية، وبالتالي أن تكون خطوته خلال الأعوام القليلة المقبلة غزو بلدان البلطيق الثلاثة: لاتفيا وليتوانيا وأستونيا.
والشرق الأوسط ليس خارج هذه اللعبة الخطرة، فترمب اعترف خلال الولاية الأولى بضم إسرائيل القدس والجولان، وهو في الولاية الثانية يسلم لبوتين بثمار غزوه أوكرانيا، وليس غريباً بعد النموذجين الإسرائيلي والروسي أن يكمل ترمب دعمه لحرب إسرائيل على غزة ومطامع نتنياهو القائل "أنا في مهمة تاريخية وروحانية ومرتبط عاطفياً برؤية إسرائيل الكبرى"، فما الذي يحول دون ضم إسرائيل الضفة العربية وأراض في لبنان وسوريا وبلدان أخرى ما دامت روسيا تستطيع الحصول على اعتراف بثمار غزوها لبلد جار كان جمهورية من جمهوريات الإتحاد السوفياتي؟ وماذا عن طموحات إيران وتركيا الجيوسياسية في البلدان العربية؟
الغزو هو الغزو، بصرف النظر عمن يرتكبه وعن ضحيته، ورفض الاحتلال الإسرائيلي يجب أن يكمله رفض الاستيلاء الروسي على أرض أوكرانيا، ورفض استيلاء أية دولة كبرى دولية أو إقليمية على أرض بلد ضعيف أو صغير.
و"صاحب الرؤية البعيدة تاعس"، كما قال تشرتشل.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية