بدأت سنة «طوفان الأقصى» الأولى بأعظم «هجمة كوماندوز» عابرة إلى قلب فلسطين المحتلة، وبفشل استخباراتي وعسكري عظيم لكيان الاحتلال، فيما بدا الانتقال إلى عام الحرب الثاني مختلفا، وخيمت عليه ظلال هجمة معاكسة، وبدت الموازين ومبادرات السلاح ومباغتاته، كأنها تميل هذه المرة بشدة لصالح العدو، الذي حقق إنجازات تكتيكية واستخباراتية ظاهرة، وبالذات على جبهة لبنان، مع موجة اغتيالات مفاجئة صادمة متواصلة لقادة الصفين الثاني فالأول في «حزب الله»، وصولا إلى فجيعة اغتيال السيد حسن نصر الله، وبدا كيان العدو في أحوال نشوة مجنونة، عبر عنها بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو قبل أيام، حين أعلن متفاخرا متعجرفا «لقد صفينا نصر الله وخليفته وخليفة خليفته».
ولا ريب، أن اغتيال عشرات القادة من حزب الله، واغتيال نصر الله بالذات، يعد خسارة كبرى لجماعة حزب الله، وهو ما عبر عنه نصر الله نفسه قبل اغتياله، حين اعترف علنا بالأثر الفادح لضربات «البيجر» و»الووكي توكي» واغتيالات قادة كبار بعدها، وقال نصر الله في آخر خطاباته، إن الضربات كانت موجعة وثقيلة، لكن نصر الله، الذي ذهب بعدها إلى مصيره الاستشهادي، كان واثقا على ما يبدو من قدرة الحزب على تحمل وامتصاص الضربات، التي أظهرت خروقا أمنية عميقة وواسعة في بنية الحزب القيادية، تتخطى حدود وآثار التفوق التكنولوجي الرهيب للعدو الأمريكي الإسرائيلي، وتبرز وجود جواسيس على الأرض في بيئة الحزب، التي لا تزال تعاني من خيانات ممتدة بخيوطها من طهران إلى لبنان، وغفلة «حزب الله» الطويلة عن اكتشاف ومعالجة الاختراقات في وقت مبكر، وبالذات حين تمدد وجود الحزب، وتورط في حروب ومآسي سوريا الداخلية، وتعرضه لانكشاف مرعب.
وقد لا تكون لدى الحزب اليوم فرصة وقت لسد الثغرات، خصوصا أن العدو فرض عليه وعلى بيئته حربا مهلكة، فيها آلاف الغارات الجوية التي لا تنقطع، وتسعى إلى تدمير وإبادة البشر والحجر والشجر على طريقة ما جرى في غزة، وهو ما هدد به نتنياهو علنا، وخاطب الشعب اللبناني داعيا إياه إلى ثورة على حزب، الله إن أراد تجنب مصائر التدمير الشامل، وقد لا يشك أحد في وجود قوى وتيارات داخل لبنان مستعدة لطاعة أوامر نتنياهو، وإن كانت تتخوف من قيامة ثانية لحزب الله، رغم التجريف الذي جرى ويجري لبيئته الحاضنة في الجنوب والبقاع والجبل والضاحية الجنوبية، ونزوح ما يقارب المليون ونصف المليون من اللبنانيين المؤيدين لحزب الله ومقاومته.
ووسط كل هذا الهول، قد لا تتوافر معلومات كافية عما يجري داخل الحزب، وإن بدت الأمارات والإشارات، إضافة لكلمات الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، وكلها تؤكد استعادة الحزب لتماسكه بسرعة، وإحلال قادة جدد بدلاء عن المغتالين، والأهم في ما نعتقد، أن الجهاز الأمني والعسكري لحزب الله، لا يزال يعمل بكفاءة وعافية ملحوظة، لا يمكن تصور حدوثها بغير نظام محكم للضبط والربط، ولا بغير اتصال عمل نظام القيادة والسيطرة، وهذه واحدة من مواريث قيادة حسن نصر الله، الذي تحدث مرارا عن القوة العسكرية الضخمة لحزب الله، وقدرها بما يزيد على مئة ألف مقاتل، وبما قد يصل إلى المئة والخمسين ألفا، وكان يومئ وقتها لعدم احتياج الحزب إلى مدد عسكري يضاف من خارج الحدود، فوق حيازة الحزب لقوات نخبة فائقة التدريب والاستعداد، وترسانات سلاح متنوع في المخازن والأنفاق البعيدة عن غارات التدمير، وأساليب عمل الجناح العسكري للحزب، تجمع انضباط الجيوش إلى حريات التصرف اللامركزي، وهو ما بدا ظاهرا في انضباط الرشقات الصاروخية، والتدرج المدروس في كثافة ومدى الصواريخ المستخدمة، التي وصل بعضها إلى تل أبيب نفسها، وإلى مستعمرة معاليه أدوميم في الضفة الغربية، في حين تركز أغلبها على شمال فلسطين المحتلة، وصولا إلى صفد وتجمع الكريوت وحيفا وما بعد حيفا، ما قد يعنى غالبا، أن أغلب ترسانة الحزب الصاروخية لا تزال جاهزة، ويجري إطلاقها حسب التوجيه المركزي، وعبر شبكة اتصالات محصنة، لا يعلم أحد وسائلها، ويبدو أن صدمات الاغتيالات المتوالية، أعادت الحزب إلى سيرته السرية الأولى، فلا يبدو الحزب في عجلة لإعلان تنصيب أمين عام جديد خلفا للشهيد نصر الله، بل تبدو روح السيد حسن عاملة مؤثرة قائدة في ميدان المعارك، حيث تحولت حوافز الانتقام للسيد المغدور إلى دفعة معنوية ملهمة لقوات النخبة عند الحدود، وفي مواجهة خمس فرق إسرائيلية، على حدود القتال البري، ظلت لأيام طويلة عاجزة عن مجرد اجتياز الحدود، وبدا مقاتلو حزب الله في صورة أشباح مخيفة للجنرالات الإسرائيليين، تفاجئهم في الموعد بالضبط، وتوقع بهم خسائر ثقيلة في لواءات النخبة، اعترف العدو بالقليل منها، ووصفها مع ذلك بمعارك الأيام الصعبة، فقد بدأ نزيف الدم الغزير، الذي يخشاه العدو من الاقتحام البري المخطط لجنوب لبنان.
في استطلاعات نهاية عام حرب الطوفان الأول، قال 73% من الإسرائيليين، إن جيشهم فشل في الحرب مع «حماس» وأخواتها، الذين لا يزالون في الميدان، وفي العمليات الفدائية الاستشهادية خلف خطوط النار
|
وفي هذه الأيام اللاهثة، يبدو كيان العدو وإعلامه منتشيا محتفلا بإنجازات جيشه وأجهزة استخباراته، لكنه يخشى غريزيا، أن تذهب «السكرة» سريعا، وتأتي «الفكرة» مع مرحلة الحرب البرية، فقد تلعب التكنولوجيا وخطط الاستخبارات أدوارا كبيرة في الحروب، لكنها لا تحسم قتالا، وقد ذهبت أيام العدو الزاهية المزهوة بحملات الاغتيالات، وجاء الدور إلى أيام حزب الله مع غزو العدو البري، وقد فعلتها حماس وأخواتها في حرب غزة طوال عام كامل، وتواصل قتالها الأسطوري من رفح إلى خان يونس إلى بيت حانون وجباليا، وكشفت هزال الأداء القتالي لجيش الاحتلال في معارك الالتحام والمسافات الصفرية، ونحسب أن حزب الله يفعلها وسيفعلها لاحقا، بكفاءة وعتاد أوفر وأكثر تنوعا، وفي جغرافيا وطبوغرافيا أكثر ملاءمة لحروب العصابات والقتال غير المتناظر، ففيما تبدو غزة كجغرافيا محاصرة رملية منبسطة بغير تضاريس للتخفي، يبدو جنوب لبنان على العكس مثالا نموذجيا، حافلا بالجبال والأحراش والغابات والوديان والتلال، فوق أن أنفاق حزب الله تحت الأرض، تبدو أوسع وأعمق من شبكات أنفاق حماس وأخواتها في غزة، إضافة لخطوط إمداد موصولة لحزب الله من جغرافيا الجوار، تظل تعمل رغم القصف الإسرائيلي المركز على معابر بعينها، وكل متر عبر الحدود صالح للعمل كمعبر تزويد بالسلاح، وهو ما يعني بوضوح، أن مخازن سلاح حزب الله قد تكون تأثرت هنا أو هناك، لكن فرص التعويض المنتظم تظل ممكنة تحت النار، وعلى غير حالة غزة، المحاصرة المغلقة حدودها من كل اتجاه، والفوارق المرئية تعمل لصالح قوات حزب الله، وتحملنا على توقع قتال احترافي باهر من «قوات الرضوان»، الموزعة فرقها على خطوط دفاع منتظمة في الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني شمالا وما بعده، ومستعدة لإيقاع خسائر كارثية بقوات جيش الاحتلال، فدخول قوات الاحتلال إلى الجنوب، يعني أن «الغلة» العسكرية زادت في شباك مقاتلي حزب الله، وعلى نحو يفوق بكثير ما جرى في حرب 2006 بالمنطقة ذاتها، وإذا كانت «حماس» وأخواتها دمرت مئات من دبابات «الميركافا» وناقلات الجند المدرعة، وقتلت وجرحت آلافا من ضباط وجنود العدو، فإن التوقعات تبدو أكبر في أحوال القتال المتلاحم مع قوات حزب الله، مع تحول جبهة لبنان إلى جبهة مشاركة دامية لا مجرد جبهة إسناد، خصوصا مع تحرر حزب الله تدريجيا من الحسابات المعيقة، ووضع السيف مباشرة على رقبته، و»يا روح ما بعدك روح» كما يقول المثل الشعبي السيار، وقد نزف الحزب كثيرا من دماء قادته التاريخيين، وجاءته فرصة الانتقام، ليس برشقات صواريخ الأدق وأفلام «الهدهد» العائد وحدها، بل بإغلاق دوائر حساب الدم المفتوح المسفوح، وتجسيد مقولات السيد حسن عن الدم الذي يهزم السيف، وقد لا يطال الحزب طائرات العدو، ولا يملك قنابلها الأمريكية بآلاف أطنانها، لكن الفرصة جاءت مقاتليه مع الغزو البري ولواحقه، وبوسعه الآن تصفية الحساب، وجني الأثمان من رقاب ضباط وجنود العدو، ولا شيء يغيظ العدو ويصيبه بالحسرة والقنوط، سوى القفزات المتلاحقة في أعداد قتلى الجيش الإسرائيلي .
وفي استطلاعات نهاية عام حرب الطوفان الأول، قال 73% من الإسرائيليين، إن جيشهم فشل في الحرب مع «حماس» وأخواتها، الذين لا يزالون في الميدان، وفي العمليات الفدائية الاستشهادية خلف خطوط النار، وإضافة مدد حزب الله وطاقته، تعنى أن العدو وجيشه بصدد حرب استنزافه على جبهتي الشمال والجنوب معا في عام الطوفان الثاني.
*كاتب مصري
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - القدس العربي-